في حوار مع الدكتور مبارك حنون، مدير الاكاديمية الجهوية للتربية والتكوين بجهة سوس ماسة درعة:
نحو إرساء مدرسة حديثة ورائدة
مشروع جيل مدرسة النجاح مشروع مجتمعي و ليس مشروع المدرسة وحدها
المدرسة ليست مؤسسة للترسيب أو مؤسسة لا يلجها التلاميذ إلا ليغادروها ولا مؤسسة تنفر التلاميذ والمجتمع منها
يعرف الحقل التربوي ببلادنا تحولا عميقا يعتبره الملاحظون منطلقا جديدا لتكريس مدرسة مغربية رائدة تسمح برفع تحديات وكسب رهانات بلادنا. ومن دون شك فإن إصلاحات المنظومة التعليمية التي واكبت التحولات التي شهدها المغرب منذ عقدين من الزمن والتي تدعم راهنا بالمخطط الاستعجالي تشكل منعرجا مطردا في مجال الرفع من مستوى القطاع. ومن دون شك كذلك أن رهان التربية لايزال في بداية الطريق بالنظر إلى جملة الإكراهات والعوائق التي تحول دون الارتقاء بالمسألة التعليمية بالمغرب على اعتبار أنها تعد رافعة التنمية الشاملة والمندمجة. ويأتي البرنامج الاستعجالي كمخرج جديد لاستدراك إخفاقات الميثاق الوطني للتربية والتكوين في إطار إعادة التفكير في صياغات الأداء التربوي وتأهيل بنيات الاستقبال وإمداد العمل التعليمي والتعلمي بكل المستلزمات والوسائل. وتنحصر هذه المبادرة الجديدة في كونها لاتزال في مرحلة جنينية وتجريبية تحتاج إلى كثير من الدربة والمراس. غير أن الحسم في قضية التعليم باعتبارها قضية مصيرية للأمة بمختلف مكوناتها وتشعباتها لايمكن أن يتم عبر ثقافة الاستعجال لأن الاستعجال في حد ذاته ينطوي على التسرع والاستدراك والخشية. إن المسالة التعليمية على العكس من ذلك في حاجة الى استعجال الثقافة... ثقافة التخلص من بوتقة الاحجام... ثقافة الهوية والانتماء... ثقافة القيم والمواطنة. هذه الثقافات تنصهر في الجسم الوطني المتعدد والموحد عبر الحوار والتجرد والترفع والتألق. هذه الثقافات كفيلة بضمان رهانات النجاح. لمناقشة كل هذه الأفكار والتداعيات، نستضيف اليوم الدكتور مبارك حنون مدير الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة سوس ماسة درعة، المثقف الرصين والأديب المبدع والباحث التربوي العميق والمحنك الذي استطاع أن يخلق تلك الثقافات الحالمة بمغرب التربية.. وفيما يلي الحوار:
* بيان اليوم: يتزامن الدخول التربوي للموسم الدراسي الحالي مع إعمال المخطط الاستعجالي الذي تبنته الحكومة بعد تأخر جملة من استحقاقات الميثاق الوطني للتربية والتكوين. ما هي في نظركم أهم مميزات تنزيل الوصفة التعليمية الجديدة، وهل برأيكم سنتمكن من تدارك هذا التأخير في أفق 2012 سيما وأن المنظومة التعليمية بحاجة إلى إصلاحات جذرية شاملة ومندمجة؟
- مبارك حنون: لقد جاء البرنامج الاستعجالي ليسد الكثير من الثغرات والأعطاب وتدارك عدد من التأخرات التي كثفها ويكثفها قطاع التربية والتكوين. وقد سبق للميثاق الوطني للتربية والتكوين أن صاغ أجوبة برنامجية واستراتيجية عن واقع الحال المتجسد في التشخيصات العديدة التي قامت بها هذه الهيئة. وكان على القطاع أن يبلور مخططا للتنزيل يتفرع إلى عدة منهجية وتحديد العمليات وعدة مالية وجدولة زمنية وقيادة البرنامج الاستعجالي. هذه أهم ملامح ومميزات التوجه الحالي. وقد اقتضى التنزيل إحكام مختلف الحلقات التدبيرية والتنظيمية والتعبوية والتواصلية. مثلما اشتد الحرص والتخطيط على أن تكون المؤسسة التعليمية هي المستهدفة والمستفيدة وأن تتظافر الجهود لتنعكس النتائج الإيجابية في المؤسسة والفصل الدراسي. مثلما يتميز التنزيل بتأطير ثقافة الاستعجال والحزم لمختلف العمليات باعتبار حجم المتراكم من الخصاص والعجز وبالنظر إلى الرهانات ومنطق عصر الاستعجال. وفي موضوع إمكانية تدارك التأخير في أفق 2012، فالوزارة وضعت مخططا شموليا وعميقا ومندمجا ومنفتحا ومعبئا لفعاليات مجتمعية ومؤسساتية أخرى، ويشمل مختلف واجهات العمل التربوي. لذا، فهي متأكدة من أنها ستحقق الهدف المتمثل في تدارك التأخر وإرساء مدرسة حديثة رائدة.
* في ظل الإكراهات المتنوعة والمتعددة التي أضحت تصاحب النظام التعليمي ببلادنا، بات من البديهي البحث عن السبل الناجعة لإخراجه من الأزمة المزمنة. ما هي في اعتقادكم أهم المقاربات الممكن سنها في هذا المضمار؟ هل هي أزمة قيم أم أزمة إرادات أم أزمة استراتيجيات أم...؟
- كان من الممكن أن تكون إكراهاتنا غير بنيوية كما هو عليه واقع الحال لو أن ثقافة تطوير المنظومة كانت ملازمة لها ولو أن المنظومة ظلت بمنأى عن أهم خلافاتنا وصراعاتنا، وأقصد عدم انغماسها العميق في الصراع الاجتماعي والسياسي. فقد أكدت كل التقارير الدولية الداعية إلى تنمية المدرسة وإصلاحها إلى الحرص على الاستقلالية النسبية للتعليم تجاه الفعل السياسي وتداعياته. لقد تعاونت عدة عوامل لكي لا تبقى المدرسة مركز نشر القيم الإنسانية. فضلا عن كون البلاد لم تدرك إلا مؤخرا أهمية تنمية الرأسمال البشري وإذن محورية دور المدرسة في التنمية والتقدم، لذا تمت إعادة صياغة الأولويات وتمت صياغة إرادات. والمعلوم أن ثقافة الإرادات والتوافقات جديدة نسبيا في فكرنا الانقسامي وسلوكاتنا. ومن الطبيعي ألا نستطيع، بسبب كل ذلك، صياغة استراتيجية ملائمة إذا كانت الرؤية غير مشتركة ومتقاسمة. هذه، ربما أهم إكراهاتنا البنيوية التي لم تتمثلها بعد كل مكونات المجتمع المغربي، وهو ما يفسر عددا من التمزقات والتردد، وقد لا يشعل فتيل مقاومة التغيير ما لم يتم سن مشروع وطني تواصلي وتعبوي.
* من دون شك أن الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين بجهة سوس ماسة درعة عانقت في الفترات الأخيرة محاولة رائدة في مجال الرفع من الأداء والعطاء على الرغم من الشساعة الجغرافية والهشاشة البنيوية للجهة. في تقديركم إلى ماذا تعزون أمر هذه المحاولة المميزة َ؟
- سعت الأكاديمية وتسعى إلى تجديد مقاربة الشأن التربوي بانتهاج حكامة تربوية وتقاسم المسؤولية بين مختلف مكونات المنظومة. وتسترشد في ذلك بمقوم جهوي يتمثل في المبادرة والانفتاح على مكونات المجتمع وانتهاج التواصل المنتظم والإشراك بغاية التقدم وتحسين الإنجازية. مثلما سعت وتسعى إلى غرس مشاتل الجودة والتجديد. وقد كان هذا هو دأب الأكاديمية منذ انطلاقتها. لكن التحديات الكبرى التي تواجهها لم تسمح لها باستثمار جيد لعدد من مبادراتها. والتحديات متعددة منها: الشساعة الجغرافية والهشاشة والخصاص في الموارد البشرية ومنها مقاومة التغيير المتعددة الأشكال.....
* يعتبر العمل التشاركي في صميم التوجهات الحالية للتخفيف من وطأة الانحدار بالمنظومة التعليمية. كيف يمكن إشراك المحيط الخارجي؟ وما هي وسائل الإقناع التي يمكن بواسطتها إدماج المتعاونين في البرنامج التربوي الجديد؟
- العمل التشاركي مكون من مكونات الحكامة الجيدة ويهم مختلف القطاعات. والغاية منه تحميل المسؤولية لمختلف مكونات المجتمع وفتح كل أواصر التعاون والتكامل لتسيير الأمور والتحكم فيها ورسم تقدمها. وقد خطت الوزارة والأكاديمية، في هذا السياق، خطوات هامة. وفي حقيقة الأمر، يشترط العمل التشاركي وجود إرادة حقيقية ووجود مصداقية الشريك التربوي. وأعتقد أن هذا المسعى يعرف تقدما، وتبنى على مستوى أقاليم هذه الجهة ثقة متنامية ووعي بكون الشأن التربوي شأن عمومي يخترق كل القطاعات وكل مؤسسات الدولة والمجتمع. وفضلا عن ذلك، يتطلب الأمر مسألة أساسية وتكمن في خروج الإدارة التربوية الجهوية والإقليمية من سياسة التدبير الانفرادي وتعريف المجتمع ومكوناته بصعوبات المنظومة واختلالاتها وبإستراتيجية التغيير ودور كل الفرقاء في التصحيح وبناء علاقات جيدة وصحية. وأعتقد أن الخطط التواصلية والتشاركية والتعبوية الجديدة التي تنهجها الوزارة وأكاديمياتها قمينة بتعبئة المحيط. ومن جهة أخرى، أتصور أن الشروع في تنفيذ البرنامج الاستعجالي وإخراج عملياته إلى الوجود والتقدم في إحكام تدبيره كفيل بأن يجعل المحيط الخارجي خاصة منه المحيط بالمدرسة مهتما ومنفتحا على المدرسة. وفي هذا السياق، فإن توجه الوزارة القاضي بإرساء مدرسة النجاح ومشروع المؤسسة وتوسيع ثقافة الإشراك حول محاور محددة محكومة بنتائج محددة ودقيقة من شأنها أن تقنع بالانخراط وتوسيعه. غير أن هذا يشترط حركية ونشاطا وتنظيما لذات الأكاديمية يرفع من ثقافة المساءلة والمأسسة ويغرسها بصبر في تربة ليست بعد مهيأة لها بالكامل.
* في ذات السياق، يعد التعليم العالي امتدادا طبيعيا وجسرا انتقاليا للجهد المبذول في حظيرة التعليم المدرسي بسائر أسلاكه؟ كيف يمكن ضمان نجاح وافر لهذا الانتقال وتيسير سلاسة تمريره؟
- ما تزال حلقة أساسية يجب الاهتمام بها، وتتعلق بتدبير الانتقال من الابتدائي إلى الإعدادي ومن التأهيلي إلى الجامعي بسلاسة ويسر كما هو حاصل في منظومات تربوية أخرى. وقد شرعت الوزارة في إطار البرنامج الاستعجالي في معالجة هذا المشكل من زاوية التوجيه عن قرب وبناء التلاميذ لمشاريعهم الشخصية في فضاءات مناسبة نستعد لإعدادها وإخراجها إلى الوجود. ومن جهة ثانية، لم نستثمر، وأخص بالذكر الأكاديميات والجامعات والكليات والمعاهد والمدارس العليا، بعد كل إمكانات التعاون المتاحة بالاستماع إلى انتظارات بعضنا البعض ورسم خطة لتنمية شمولية للتعليم بمختلف أسلاكه ومد جسور مؤسساتية للتعاون والتنسيق. لقد بدأنا بالعمل في هذا الاتجاه، لكننا لم نقطع بعد المسافة الضرورية النوعية التي تحتم تنظيم جلسات تنسيقية ووضع خطط مشتركة نتعهدها جميعا.
* على ذكر النجاح وتأسيسا على شعار "جميعا من أجل مدرسة النجاح"، إلى أي حد يمكن اعتبار هذا الشعار وما يستوجبه من مواجهة للرسوب والهدر والانقطاع محفزا فعالا لبسطه وشيوعه؟ وما هي آليات تحقيقه وتجذيره؟
- المدرسة ليست مؤسسة للترسيب أو مؤسسة لا يلجها التلاميذ إلا ليغادروها ولا مؤسسة تنفر التلاميذ والمجتمع منها. والشعار المرفوع من قبل وزارتنا يستهدف التذكير بأصل المدرسة وبمهمتها الأصلية. وأعتقد أن الشعار لا يفيد ما لم نضع تصورا للنجاح ونتتبع تنفيذه بل حسن تنفيذه. ومن المعلوم أن وزارتنا قد وضعت خطة تسير بحزم في هذا الاتجاه وتركز على التعليم الابتدائي باعتباره مدخلا للتصحيح ومنطلقه، وتمس مختلف مجالات التدخل وحياة التلميذ داخل الفصل وداخل المدرسة. وهو ما يدعو إلى عدم عزل هذا الشعار عن مشروع جيل مدرسة النجاح وعن مقتضيات ومشاريع البرنامج الاستعجالي. قد يلزمنا بعض الوقت لندخل كل البيوت فتتأكد أن المدرسة تتغير وتتحول إلى مؤسسة تربوية حقيقية تعنى أساسا بالنجاح وترسيخ مقوماته بدءا من حب الجميع للمهنة واعتبارها الاعتبار اللازم. ومن الأكيد أن هذا الشعار يحيل على تنظيم المدرسة وامتلاكها رؤيتها ضمن محيطها وإذن مشروع المؤسسة الذي ينبغي أن يوظف كل مكوناته وعملياته وأنشطته من أجل نجاح كل التلاميذ. ومشروع جيل مدرسة النجاح ليس مشروع المدرسة وحدها، بل هو مشروع الأمهات والآباء والأولياء وكل مكونات القطاع. إنه مشروع مجتمعي من الضروري أن يرعاه المجتمع وأن يتتبعه. أما عن آليات تفعيل هذا المشروع وتحقيق النجاح، فقد تم وضع هياكل وطنية وجهوية وإقليمية ومحلية، وتم عقد جلسات تواصلية مع المديرين والمفتشين وتم اختيار أساتذة السنة الأولى الذين سيتم تكوينهم بعد بضعة أيام. وتعلمون أن هذا العمل يواكبه ويعضده برنامج استعجالي يشمل مختلف المجالات والميادين.
حاوره: سعودي العمالكي
23/10/2009