مؤسسات عالـمية تحمي اللغة الفرنسية، فمن يحمي اللغة العربية؟
من غير تدبير مسبق، قرأت في جلسة واحدة، في مجلتين شهريتين، أربعة مقالات ومقابلة صحافية؛ ففي مجلة (المستقبل العربي)، عدد شهر أكتوبر الماضي، قرأت مقالاً للكاتب التونسي محمود الذوادي بعنوان (اللغة الفرنسية في المغرب العربي: غنيمة حرب أم استلاب هوية؟)، وفي مجلة (العربي)، قرأت في عددي نوفمبر وديسمبر، حديث الشهر الذي يكتبه رئيس التحرير الدكتور سليمان إبراهيم العسكري، الأول تحت عنوان (الهوية العربية بين سندان التغريب ومطرقة التطرف)، والثاني تحت عنوان (العربفونية في عصر العولمة). وقرأت في عدد نوفمبر أيضاً من (العربي)، مقالاً للدكتور كمال عبد اللطيف بعنوان (الفرنكفونية والمشروع السياسي الفرنكفوني). وقرأت في هذا العدد مقابلة مع الدكتور عبد الملك مرتاض، رئيس المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر. وعلى الرغم من التعدّد في العناوين والتنوع في المناهج والمشارب، فإن القضية الرئيسَةَ التي تناولتها هذه المقالات والمقابلة، وجمعت بينها وجعلتها تدور حول محور واحد، هو المحور الذي يثير كثيراً من الجدل في هذه المرحلة، هي حاضر اللغة العربية ومستقبلها في ظل التحديات التي تواجهها، خصوصاً مع تنامي الهجمة الفرنكفونية.
ففي مقال محمود الذوادي تذكيرٌ بالمقولة التي كان يرددها الأديب الجزائري الذي كان يكتب باللغة الفرنسية، كاتب ياسين (اللغة الفرنسية غنيمة حرب)، ورددها معه، ربما على سبيل المحاكاة والتقليد، المثقفون والمتعلمون الفرنكفونيون في مجتمعات المغرب العربي. ومعنى هذه المقولة أن اللغة الفرنسية هي عبارة عن غنيمة كسبتها تلك المجتمعات من المستعمر الفرنسي، وينبغي، إذن، المحافظة عليها. وقد فحص الكاتب التونسي مدى مصداقية مقولة الكاتب الجزائري، فتبين له أن هذا الشعار ضيق الرؤية والأفق، وبالتالي فالذي طرحه ـ حسب عبارة الكاتب ـ سطحيُّ الفهم وساذجٌ في إدراك وقائع الأمور الحقيقية الميدانية على الأرض بالنسبة للتعامل مع اللغات الأجنبية الدخيلة على المجتمعات البشرية. واختار الكاتب محمود الذوادي حالة المجتمع التونسي للنظر في جوانب الخسارة والضرر التي تعرضت وتتعرض لها اللغة العربية (اللغة الوطنية) في المجتمع التونسي المعاصر، من جراء دخول اللغة الفرنسية مع الاحتلال الفرنسي إلى تونس في 1881. فيقول: (باستثناء ليبيا، يمكن تعميم ذلك بسهولة على بقية مجتمعات المغرب العربي: الجزائر والمغرب وموريتانيا). ثم يضيف: (إن الاستعمار الفرنسي، مقارنة بنظيره الإنجليزي، يعطي أهمية كبرى لنشر لغته وثقافتها وتعليمها لسكان المجتمعات التي يحتلها. ومن ثم تأتي مشروعية تفسير ظاهرة التنافس الكبير الذي كسبت رهانه اللغة الفرنسية ضد اللغة العربية في العديد من القطاعات في المجتمع التونسي، وغيره من مجتمعات المغرب العربي أثناء الاحتلال الفرنسي وبعد الاستقلال).
ويعزز هذا الرأي الدكتور سليمان إبراهيم العسكري، رئيس تحرير (العربي)، بقوله (إن فقدان العرب هويتهم أفقد العمل العربي المشترك مصداقياته (جمع مصداقية) وعلى رأسها جامعة الدول العربية). ويضيف: (عندما تتلاشى هوية شعب، فإنه يفقد مكوناً رئيساً من مكونات قوته، كما أنه يفقد أيضاً قيمه الأساس). ويخلص إلى القول: (لسنا ضد تعلم اللغات الأجنبية، لكننا ضد انتشارها على حساب لغتنا الأم، أو لحساب طمس هويتنا الثقافية).
وفي افتتاحيته التي اختار لها عنوان (العربفونية في عصر العولمة)، يكتب رئيس تحرير (العربي) عن سبل دعم المقاومة لطوفان الهيمنة اللغوية القادم من الدول الغربية خاصة تلك الناطقة باللغتين الإنجليزية والفرنسية، ويشير إلى أن موضوع اللغة لدى تلك الدول لا يّعدُّ عابراً أو مجرد تطور طبيعي لبديهيات، كونها لغات المجتمع التي تنتج المعرفة والعلوم ولغة العصر الحديث تقنياً، بل يتعدى الأمر ذلك إلى خطط محكمة تبذل لأجلها جهود جبارة في أرجاء العالم، وتنفق عليها مليارات الدولارات.
ويلتقي الدكتور سليمان العسكري والدكتور كمال عبد اللطيف في الحديث عن الدور الذي تقوم بها المؤسسات الفرنسية الرسمية في حماية اللغة الفرنسية والعمل على انتشارها. ويقول الأول إن المنظمة الدولية للفرانكفونية تجسد أحد ردود الفعل على التأثير الأمريكي على ثقافات العالم، والتي تعكس أيضاً مدى رغبة فرنسا في نشر ثقافتها بدورها، للحفاظ على قوتها ونفوذها في العالم. وقد أصبحت هذه المنظمة تجمعاً دولياً منظماً يضم خمساً وأربعين دولة ناطقة كلياً أو جزئياً باللغة الفرنسية، حيث تشكل اللغة الفرنسية الرابط المؤسس لهذه المنظمة.
ويقول الدكتور كمال عبد اللطيف: (ابتداء من ستينيات القرن الماضي، لم يعد مفهوم الفرنكفونية يطرح دون ردود فعل مساندة أو معادية، فلقد تحول المفهوم المشروع إلى قضية تنسب إلى اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية، وتستعين بالأدوات والوسائل المادية (ميزانية محددة) لترجمة مشاريع في العمل ذات أبعاد ومرام متعددة، من بينها إنشاء جمعيات وتنظيمات ووكالات ولجان بهدف تمتين الروابط والصلات مع المستعمرات القديمة). ويضيف : (إن الفرنكفونية تحولت شيئاً فشيئاً من فكرة إلى مشروع، إلى جملة من الوسائط المادية، بهدف ظاهر، يتمثل في تسهيل التعاون بين الناطقين جزئياً أو كلياً بالفرنسية، وإلى واجهة للهيمنة اللغوية والثقافية أولاً، والهيمنة السياسية في نهاية المطاف).
ويهتم الكاتبان، الدكتور سليمان العسكري والدكتور كمال عبد اللطيف، بذكر المؤسسات الفرنسية التي أنشئت لحماية اللغة الفرنسية، ويكادان يتفقان في إيراد أسماء تلك المؤسسات، وهي المجلس الدولي للغة الفرنسية الذي تأسس سنة 1968، وهو صيغة أكاديمية فرنسية دولية تملك الحق في إنهاء النزاعات اللغوية المتوقعة بين الدول الفرنكفونية، ومنظمة الشباب الفرنكفوني التي تأسست سنة 1966، والمنظمة الدولية للبرلمانيين الناطقين بالفرنسية، التي يوجد مقرها في بروكسيل وأمانة سرها في باريس والتي أنشأت تجمعاً ثقافياً باسم (كوكبة المشاهير) وظيفته منح جوائز أدبية لأفضل الكتاب والشعراء الفرنكفونيين، والفيدرالية الدولية للمعلمين الناطقين بالفرنسية الذي تأسس سنة 1970، ووكالة التعاون الثقافي والفني –ACCT- التي تحولت إلى المنظمة الدولية للفرنكفونية، وهي منظمة للتبادل الثقافي مع الحكومات، وتحول تاريخ تأسيسها (20 مارس) إلى يوم عالمي للفرنكفونية، والقناة التلفزيونية الفرنسية الخامسة –TV5- الموجهة أساساً، كما يقول الدكتور كمال عبد اللطيف، لاستقطاب واستيعاب الفضاء الفرنكفوني، والتي ساهمت بدورها في تعزيز الحضور الفرنسي والفرنكفوني بصورة قوية، وذلك بواسطة المسابقات اللغوية والثقافية، والجمعية العالمية للكتاب باللغة الفرنسية الذي تأسس سنة 1947، والمجلس العالمي للفرنسية كلغة أوروبية الذي تأسس سنة 1957، واتحاد الجامعات الناطقة كلياً أو جرئياً باللغة الفرنسية الذي تأسس سنة 1961، وفيدرالية الجمعيات للانتشار الفرنسي التي تأسست سنة 1964، واللجنة العليا للغة الفرنسية التي تأسست سنة 1966، والجمعية الفرنكفونية للاستقبال والاتصال التي تأسست سنة 1974، والرابطة الدولية لرؤساء البلديات والمسؤولين عن العواصم والمدن الكبرى التي تستعمل اللغة الفرنسية كلياً أو جزئياً التي تأسست سنة 1979، والمجلس الأعلى للفرنكفونية المؤسس سنة 1984، والمجلس الأعلى للغة الفرنسية المؤسس سنة 1989، وجامعة سنجور التي تأسست سنة 1989، والذي يرأسه الوزير الأول الفرنسي. وجميع هذه المؤسسات تخدم هدفاً استراتيجياً هو حماية اللغة الفرنسية والعمل على انتشارها على نطاق عالمي، بما يعني ذلك، ضمنياً، محاصرة اللغة العربية ومقاومتها ومحاربتها أيضاً بشتى الأساليب.
ولمواجهة هذا الخطر اللغوي الذي يحمل معه غزواً ثقافياً كاسحاً، يدعو رئيس تحرير (العربي) إلى ما يسميه (العربفونية) على قياس الفرنكفونية، ويقصد بذلك نشر اللغة العربية في مناطق العالم، وخصوصاً في أقطار العالم الإسلامي. ويقول في هذا الصدد: (إن انتشار اللغة العربية مهمة ليست صعبة إذا توافر الجهد اللازم واللائق، خاصة أن هناك العديد من الدول في العالم الإسلامي غير ناطقة بالعربية في أفريقيا وآسيا، إضافة إلى دول الاتحاد السوفياتي السابق والمناطق الإسلامية في الصين وتركيا ودول البلقان المسلمة مثل البوسنة وألبانيا وكوسوفا، والعديد من دول أوروبا وأمريكا حيث تنتشر الجاليات الإسلامية، فسوف يقبل كل هؤلاء على تعلم اللغة العربية لكونها لغة القرآن الكريم). ويؤكد الدكتور سليمان العسكري على أهمية تضافر الجهود لنشر اللغة العربية خارج العالم العربي. وأضيف من عندي عبارة: )داخل العالم العربي(.
إن مما أثار انتباهي في مقال الدكتور كمال عبد اللطيف، الأستاذ الجامعي المغربي، قوله إن (الفرنكفونية تعلن في صيغتها الجديدة، وصايتها على الشأن السياسي في العالم)، ولكن السؤال الذي طرحه الدكتور سليمان العسكري هو: كيف السبيل لإنشاء مؤسسات عربية وإسلامية تعنى بنشر اللغة العربية وحمايتها من الغزو المهدد لهويتنا؟.
يرد الدكتور عبد الملك مرتاض، الكاتب والأستاذ الجامعي الجزائري الذي درس في القرويين وفي جامعة محمد الخامس، على سؤال وجهه إليه الكاتب الصحافي اللبناني جهاد فاضل في المقابلة التي أجراها معه في (العربي)، جاء فيه أن اللغة العربية في مأزق، وأنها تحتضر لسبب أو لآخر ـ يردّ على ذلك بقوله: (بل يجب أن نعكس تركيب المساءلة فنقول: هل الأمة العربية تحتضر؟ وهل انتهى دورها في التاريخ؟ وهل يجوز للغة يصلي بها مليار ونصف المليار من المسلمين تقريباً أن تحتضر؟، وهل يجوز للغة أسست الرياضيات العالمية واخترعت أسس الطب الكبرى واستكشفت البارود ومنحت العالم الأرقام أن تحتضر؟، وهل يجوز للغة مرسمة في كل المنظمات والهيئات الدولة في مستوياتها العليا أن تحتضر؟..).
إن السؤال الذي شغلني خلال قراءتي للمقالات الأربعة وللمقابلة، هو: كيف السبيل إلى حماية اللغة العربية؟، وهل يجوز أن ننكر أن لغة الضاد مهددة بالخطر؟.
فمن يحمي اللغة العربية إذن؟.
يكتبها عبد القادر الإدريسي
العلم