معاول الهدم لا تفرق بين الحذاء والحزام
النهوض باللغة العربية مسؤولية مؤسسات المجتمع
عقب أيام قليلة نسبيا سترفع بعض الجهات المعنية في الدولة اعلام الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، ومع كل أو بعض الاستعدادات المتواضعة التي تجرى حاليا هنا وهناك للاحتفالية السنوية التي اقرتها منظمة اليونسكو في 21 فبراير/ شباط عام ،1990 والتي فرغت من محتواها، واصبحت مجرد ندوات متفرقة في هذه الجهة أو تلك، ومحاضرات يتشدق بها هذا أوذاك عن لغة الضاد وقيمتها واهميتها ومكانتها، يقف التساؤل الاكبر اليوم والامس وقبلهما وبعدهما، حائرا مستفسرا عن الاسباب التي ادت بنا الى الاساءة الى لغتنا الجميلة، لغة قرآننا الحنيف، التي اصبحت تعاني الغبن والقهرمن بني جلدتها .النهوض باللغة العربية مسؤولية مؤسسات المجتمع
العربية الراقية، الوعاء الاوسع للعديد والعديد من المفرادات والتراكيب اللغوية، صاحبة القامة الشامخة، التي ولدت كبيرة، والتي طالما تغنى بها الشعراء، وفيها قال الاديب الكبير الراحل طه حسين: لغتنا العربية يسر لا عسر ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها، ولنا ان نضيف اليها من ألفاظ لم تكن مستخدمة من قبل، هذه اللغة تعاني اليوم منا قبل ان يكون من غيرنا، بعدما اهملنا التحدث بها، أو بالاصح اغتلناها بألسنتنا، وأهَلنَا عليها تراب التبرؤ منها، فما اصبحت في نظر الكثير منا تقف على قدم وساق من حيث التحضر -كما نتوهم خطأ- مع غيرها من اللغات الاجنبية التي سيدناها عليها، وماكنا للغتنا الام من منصفين أو عادلين، وهي التي شرفنا بها المولى عز وجل من خلال كتابه الطاهرالكريم .
إهمال العربية كتابة ونطقا من معظمنا، أصبح بمثابة قضية اطاحة بالهوية العربية نظير أوهام التفرنج، والتحضر .
كيف نعيد لغتنا الجميلة الى مكانتها التي تستحقها؟ كيف نستعيد هيبتها وعظمتها وموقعها الأصيل على الألسنة، وكيف يمكن ان نؤكد من خلالها على عروبتنا وهويتنا وانتمائنا العربي؟ هذه بعض من أسئلة، نبحث عن إجابات لها في التحقيق التالي:
بداية لابد من التوقف على ماهية الدور الغائب كثيرا، والحاضر نسبيا لجمعية حماية اللغة العربية في تحقيق الهدف الذي انشئت من اجله وهو حماية لغتنا من العبث والاستهتار، الذي اصبح بمثابة سمة تعامل السواد الاعظم منا معها .
وعلى طاولة الدكتور رضوان الدبسي مدير جمعية حماية اللغة العربية جاء الرد التالي: “الجمعية في الدولة احدى جمعيات النفع العام، ومن مهماتها الاساسية الحفاظ على اللغة العربية، ومؤازرة المؤسسات التعليمية بكافة درجاتها، والجمعيات الثقافية والمؤسسات الحكومية، في تنفيذ أية فاعلية تهدف إلى تعزيز لغتنا العربية، من خلال مشاركتها في الندوات والمحاضرات والانشطة الثقافية التي تنظمها الجهات المختلفة لبيان أهمية لغتنا على المستويات كافة، تعزيزا لما أعلنه صاحب السمو رئيس الدولة عن عام الهوية الوطنية .
ولاشك ان دعائم هذه الهوية تتركز اولا في ديننا الاسلامي الحنيف بقرآننا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن ثم العربية لغة قرآننا الكريم، وتراث أمتنا الحضاري والغني، إضافة الى التقدم الحضاري الذي هو استمرار لتراثنا، والذي عززه صاحب السمو نائب رئيس الدولة حفظه الله بمرسوم التمكين للغة العربية واستخدامها في دوائر الدولة، وهذا كله يلتقي مع جهود صاحب السمو حاكم الشارقة بتعزيز لغتنا وثقافتنا العربية، ورعاية الجمعية وتعزيز انشطتها المختلفة، ولاسيما مجلتها المتخصصة (العربية) التي تصدرها .
وأنا ضد كل من يستخدم عبارة العربية تحتضر، بل انها تتحضر للتمكين الجديد في سيادتها مراحل التعليم كافة، كما كانت العربية لغة حضارة الالف عام، وأنا من المتفائلين بحب أجيالنا وطلابنا وأبناء أمتنا للغة، وفي انها ستستمر قوية وغنية، فمثلاً جامعة قرطبة كانت من الف عام تقوم بتدريس العلوم باللغة العربية، وكانت اول جامعة اسلامية عربية في وسط اوروبا، والعربية حفظها الله سبحانه وتعالى لأنها لغة كتابه الكريم، وهي اللغة الغنية في النثر والشعر والعلوم، والمفرح اليوم انها تستخدم في تقنيات الحاسوب والشبكات العالمية .
ضعف واضح
الرد غير الشافي للغليل الى حد ما، قابله رأي مغاير من سلطان صقر السويدي رئيس لجنة التربية في المجلس الوطني الاتحادي حيث قال: منذ فترة طويلة وسؤالنا للتربويين لا يتوقف عن الأسباب وراء تدهور العربية، وتدني مستوى تحصيل أبنائنا لها، فالحقيقة التي لا مهرب منها ان هناك بالفعل ضعفاً في أساليب تدريس العربية، ورغم ان وزارة التربية طورت المناهج كافة منذ فترة طويلة إلا انها اغفلت العربية من ذلك، فيما يمكن ترجيح بعض الأسباب وراء تراجع العربية منها تقليص عدد الحصص الدراسية المخصصة لها، وتدريس الكثير من المواد النظرية في بعض المدارس بالانجليزية، بما أدى بها الى ان تصبح اللغة الثانية في التعاملات الرسمية المختلفة وليست الاولى، في الوقت الذي تدرس بعض الدول الغربية جزءاً من موادها بغير لغتها، الا انها لا تغفلها بل تعتمدها في التعامل، لذا يجب ألا نهمل لغتنا، وعلينا الزام المدارس الخاصة بتدريسها قبيل اية لغة أخرى .
ومن الضروري تحبيب أطفالنا وتشويقهم لدراستها من خلال الكتاب الجاذب والقصص المتنوعة، ومن الواجب كذلك زيادة جرعة البرامج التليفزيونية التي تبث بالعربية الفصيحة .
هجمة مقصودة
واستمراراً للاعتراف بتدهور العربية، والحلول الممكنة للنهوض بها ثانية، جاءت كلمات أحمد بو سمنوه رئيس لجنة التربية والتعليم في المجلس الاستشاري لإمارة الشارقة ومنها: تتردد كثيرا في الآونة الاخيرة الاحاديث عن الخطر الداهم الذي تتعرض له العربية، ومع التسليم ان هناك محاولة للتصدي لمحاولات هدمها حفاظاً على مكانتها، فإنني في المقابل اعتبر ان إطلاق التحذيرات الكثيرة هو جزء من الهجمة على لغتنا، وكأن الأمر محاولة لترسيخ صورة سيئة مفروغ منها في العقل الباطن، تفيد بأن نجم اللغة قد أفل، وانها مهزومة مسحوقة لا محالة، ولعل تقرير اليونسكو الذي صدر عام 2006 يؤكد ذلك، حيث تحدث عن لغات سوف تموت تدريجيا، ذاكراً منها العربية، لكنني اعتقد في المقابل ان أحلام المتربصين باللغة العربية ستذهب أدراج الرياح لو استطاع العرب تفعيل أهم مميزات العربية، ألا يقولون ان العولمة هي ظاهرة التكنولوجيا الصوتية المرئية، واتساءل من اقدر على اللغة العربية في مجالات الاداء الصوتي، وهي التي تمتلك قدرات وإمكانات هائلة لا تعادلها في هذا الشأن لغة اخرى، اليس أمراً عجيباً ويدل على درجة العجز والهوان واللامبالاة التي وصلت اليها الامة التي تتخلى عن اهم مظاهر هويتها .
وأعتقد أن مناهج التعليم من أول الأسباب التي أدت إلى تراجع العربية التي أصبحت اليوم مهددة من القائمين على العملية التعليمية والمشرفين على مناهج التعليم، الذين لا يترددون جهرا وعلانية في الحديث عن مخططاتهم لدعم مناهج اللغة الانجليزية، ودفع العربية الى الزاوية لتسهيل مهمة الساعين لوأدها، فضلا عن ذلك فاللغة العربية مهددة من المخططين لجلب العمالة الاجنبية باعدادها واصنافها والذين يهتمون بكل شاردة وواردة في صدد ماهم في شأنه، ويتجاهلون اللغة والخطر الذي يتهددها من غزو العمالة، الذي اخترق مؤسساتنا ومجالسنا وحتى بيوتنا، بعد ان قررت الكثير من الاسر التنازل عن تربية الابناء والقبول بتبني المربيات الاجنبيات لهم .
وحتى نحمي العربية علينا اولا الاعتناء بها في مناهجنا المدرسية، وان نجعل منها درة علمنا وزهرة آدابنا وعروس فنوننا، وعلينا ان نجلّ مدرسي العربية ونقدرهم ونميزهم، ونغدق عليهم، ونعمل جاهدين على تطوير إمكاناتهم ودعمهم بالأدوات اللازمة كالمختبرات اللغوية مثل التي نخصصها للغة الانجليزية، وعلينا ان نتوقف عن استخدام مقولات المغرضين الذين يروجون الى ضرورة مواكبة متطلبات سوق العمل، الذي يتطلب كما يقولون الانجليزية ولا غيرها، وعلينا الاعتراف بأننا نعلّم أولادنا ليس فقط ليصبحوا عمالا وموظفين، وانما ليصبحوا مفكرين ومبدعين وعلماء وباحثين، لذا فهل من امة تحترم نفسها تفكر بغير لغتها ؟ وأي أمة تعلم أبناءها لسوق العمل فقط هي شركة أو مصنع أو مزرعة، وليست أمة تعمل لمستقبلها، خلاف ذلك فلقد أعلن منذ ايام وللمرة الأولى عن إمكان استخدام العربية في عناوين المواقع الالكترونية في الدولة ومصر والسعودية، وهنا أهيب بالمسؤولين في بلادنا، وهم الغيورون، بإعطاء التوجيهات العاجلة للجهات المعنية لتعريب جميع المواقع الحكومية وعنونتها بالعربية كمقدمة للتعريب الالكتروني، كما ادعو الى دعم المتخصصين في تكنولوجيا المعلومات والحاسوب ومساعدتهم على إنشاء المراكز المتخصصة التي تنتصر للغة العربية، وتعمل على مزاحمة اللغات الاخرى على الشبكة المعلوماتية، ولابد من إعادة النظر في أسلوب عمل المدارس الخاصة ومناهجها، وتقييم الخريجين منها في المستوى اللغوي، وعدم السماح بالتحاقهم بالجامعات من دون الحصول على شهادات تؤكد اجادتهم للغة العربية على نسق مايحدث في اللغة الانجليزية .
حديث الأرقام
65% من برامج الاذاعة، و70% من الأفلام الناطقة، و90% من الوثائق المخزنة على الانترنت، و85% من المكالمات الهاتفية الدولية باللغة الانجليزية .
تحتل العربية الآن الموقع الثالث في لغات العالم من حيث عدد الدول التي تقرها لغة رسمية، والسادس من حيث عدد المتحدثين بها، والثامن من حيث متغير الدخل القومي، وعالميا المرتبة 22 و42 في النشر العلمي .
يرى عدد من الباحثين ان نحو 3000 الى 4000 لغة قائمة اليوم ستختفي خلال القرن الجاري، وان 5500 لغة من اصل 6703 لغة ستختفي خلال قرن، فيما تصل نسبة الامية في الناطقين باللغة العربية المعيارية المكتوبة الى 60%، علاوة على ان هناك خطرا فعليا من قبل العولمة يهدد الكثير من لغات العالم ومن ضمنها اللغة العربية .
خلص فريق البحث اللغوي في جامعة (لافال) الكندية منذ ثلاث سنوات الى ان الكم الهائل من اللغات اليوم سيتقلص الى أقل من نسبة 4% خلال قرن واحد، وان اللغات المكتوبة اليوم في العالم لا تتعدى 200 لغة، والمتوقع بقاؤها من ضمن لغات الأمم القوية، التي تشغل الجزء الشمالي من الكوكب الأرضي في أمريكا وأوروبا والشرق الأدنى والهند والصين، وفي مقدمتها الانجليزية ومن ثم الفرنسية فالعربية ثم الاسبانية والصينية والروسية بنسب متقاربة .
وسائل الاعلام
تعد وسائل الإعلام شريكاً اساسياً مسانداً للجهات المختلفة في النهوض باللغة العربية، من خلال تعزيزها وتكريسها على الألسنة عبر ما تبثه من برامج وأعمال درامية مختلفة، وعما اذا كانت تقوم بذلك من عدمه، سألنا خالد صفر مدير ادارة الاعلام في دائرة الثقافة والاعلام في الشارقة فقال: وسائل الاعلام هي الأكثر انتشارا وتأثيرا في المجتمع، وقد ادى نمط اغلب المجتمعات الصناعية والحديثة، الذي يتمثل في انشغال الفرد بتأمين لقمة عيشه عما غيرها، الى جعلها البديل لدى كثيرين عن العلاقات الاجتماعية، حيث اصبحوا يكتسبون منها (التسلية، والتعلم، والترفيه، والمعارف، اضافة الى الاطلاع على الأخبار)، وبالتالي فهم يتأثرون بكل ما تقدمه من محتوى، ومن هنا نجد أن العربية المستخدمة في المواد البرامجية في اغلب الأحيان لا تحرص على أن تمد المتلقي بلغة سليمة، فيما وبسبب انتشار القنوات الخاصة صارت اللغة المستخدمة ركيكة ومبتورة من أبسط القواعد الأساسية، وذلك حسب جنسية صاحب القناة وتوجهه .
والحال يختلف قليلاً في البرامج الإذاعية لأنها لا تزال تتمسك بالنمط الإذاعي المرتكز على اللغة العربية الفصحى، لأن طبيعة معظم البرامج الإذاعية لا تتحمل اللغات المحلية، وكون الدراما أصبحت تسيطر على أغلب البرامج التلفزيونية، فقد أصبحت من الأسباب الرئيسية في تشويه اللغة العربية، فمنتج العمل الدرامي هذا أو ذاك، أصبح ينظر إلى تسويق مسلسله حسب الجهة التي تقدم له الدعم المادي، ويحاول أن يغير من لغة الممثل وفقا لتوجهاته .
من أقوالهم
قالوا في لغة الضاد الكثير، فمن اقوال الادباء الشائعة عن العربية الجميلة ماقالته الاديبة بنت الشاطئ رحمها الله: “حين تمتحن أمة بسرقة لسانها تضيع وتمسخ شخصيتها القومية، وتبتر من ماضيها وتراثها وتاريخها، ثم تظل محكوماً عليها بأن تبقى أبداً تحت الوصاية الفكرية والوجدانية للمستعمر، حتى بعد أن يجلو عن أرضها، وبمضي الزمن يغدو هذا الاستعباد القهري ولاءً فكرياً وروحياً لمن كان لها بالأمس عدواً” .
وفيها قال الأديب الراحل عباس محمود العقاد في كتابه غرائب اللغة العربية: قارن الأب روفائيل نخلة اليسوعي بين العربية واللغات الأخرى من حيث تأثيرها وامتداد وجودها، وذكر ان اليونانية واللاتينية لم يكن لهما تأثير يذكر إلا في لغات أوروبا، على حين ان للعربية تأثيراً واضحاً غير يسير في نحو مائة من اللغات واللهجات التي تنطق بها أرقى الشعوب في أنحاء أوروبا وأمريكا واستراليا، ونحو خمسين من شعوب آسيا وإفريقيا، وانتهى العقاد الى ان العربية اقدم اللغات الحية بدلالة الضمائر والاسماء الموصولة .
أما العالم اللغوي ادوارد سابير فقال ان اللغات الخمس الوحيدة التي كان لها دور رئيس في حمل الحضارة الانسانية هي الصينية القديمة والسنسكريتية، والعربية واليونانية واللاتينية .
جيهان شعيب