التعليم وممارستنا النقدية...
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
المشهد التربوي...إلى أين ؟؟
إن العملية التعليمية في واقعنا الحالي قد أصبحت تنحو نحو تهميش المحتوى الثقافي الملتزم، وبالتالي إقصاء القيم الإنسانية خاصة كانت أم عامة. وكانت نتيجة ذلك حصيلة مروعة لمخرجات هذه العملية حيث أنتجت لنا خريجين يبعدون بعداً كاملا عن الفهم الواعي لمجريات الحياة والمجتمع،[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
المشهد التربوي...إلى أين ؟؟
وقد تسبب ذلك في إفشال كل منجزات المشروعات التنموية وطرائق تخطيطها وإدارتها، لأن الذين يقومون عليها يعانون من التخلف الثقافي السالف الذكر وكذا الاجتماعي على حد سواء. ومن عجائب الصدف أن التاريخ لا يعيد نفسه إلا في بلدنا، فهو في كل الدنيا نهر متدفق وعندنا بحيرة راكدة. ومرد ذلك كله هو أن السبب في فشل كل خطط التنمية الوطنية راجع بالدرجة الأولى إلى تخلف العملية التعليمية، كما أنه السبب في فشلها أيضا، رغم توافر الأطر والأبنية على علاتها والنية الطيبة، متجليا ذلك في قصور مناهجها ( غالبية الترجمة) واعتمادها على التلقين وبعدها عن المضمون الفكري والثقافي المنبثق من الواقع المعيش. فالبعد الفردي في النظر للعملية التعليمية المنحصر في ارتباطه بالمكانتين الاقتصادية والاجتماعية اللتين يتطلع إليهما الأفراد والمجتمعات، والمتمثل في النظر إلى التعليم على أنه سبيل لتحقيق المكانة الاجتماعية المرموقة والوضع الاقتصادي المريح وليس على أنه طريق للتقدم المجتمعي بصورة عامة، ورفع مكانة المجتمع والأمة بين غيرها من الأمم والمجتمعات من خلال الإبداع المطلوب.هذه النظرة تحد من فاعلية الأفراد حتى يصبحوا مواطنين فاعلين لهم القدرة على المشاركة الإيجابية في قضايا الواقع الذي يحيط بهم وابتكار الوسائل المناسبة لمواجهة معضلاته. فالملاحظ أن كل مناهج الدول المتقدمة تشجع على العمل الجماعي وتدفع طلبتها للتعاون عن طريق اشتراكهم في مشروعات مشتركة تراعي قدرات كل منهم واستعداداته. فخلق علاقة بين الثقافة والتربية أمر ضروري، لاعتبار الثقافة هي مصدر التغيير والإبداع والحرية، والعملية التربوية هي المنطلق لتحقيق عملية التغيير وبناء المجتمع وصياغة الإنسان، أي أن كلا منهما يكمل الآخر بالضرورة.
واستحضار الأبعاد النفسية للعملية التربوية كذلك ضرورة ملحة تستدعي أن تتحول مدارسنا من النطاق الكمي إلى النطاق النوعي، أو بالأحرى تنتقل من الجمود المعلوماتي الأكاديمي ( على حد قول الكاتب والمترجم السوري ياسر الفهد) إلى مرحلة تنشئة الفرد تنشئة نفسية سليمة وتعليمه قيم المسؤولية والنزاهة والاستقامة والتعاون والصدق. والأهم من ذلك أن تعلمه القيم العصرية التي نعيش في ظلها مثل قيم الديمقراطية والبعد عن التعصب الفكري واحترام الرأي المضاد وتبني منطق الحوار. أي تتحول المدرسة من تلقين المعارف إلى واحة حضارية لمقاومة وتعديل السلوك البشري بكل ما فيه من مساوئ. دون أن ننسى وضع برامج خاصة للتعامل مع الأذكياء والقدرات النادرة في الأجيال الصغيرة لرعايتها وحماية نشأتها من الشذوذ والهرب إلى ما لا يحبون ويكرهون على اللجوء إليه.
فخلال ربع القرن الماضي، انخرطت سياسات تعليمية في إنزالات بيداغوجية عنيفة. بعض هذه الإنزالات انطفأ بسرعة نسبية، وبعضها الآخر لم ينته حتى الآن. وترك كل منها ميراثا من الآلام التربوية والخسائر الإنسانية تراوح في الضخامة والشدة بين ما تم نسيانه بسرعة وما ظلت ذكراه تلهب الوجدان. ولكن حقيقة أساسية تبرز بوضوح من خريطة هذه الإنزالات ، وهي أن أجيال قد وقعت بين المطرقة والسندان. وتظهر تلك الآلام وتلك الخسائر بقدر أكبر من الوضوح بالنسبة للمعطلين خاصة منهم حاملي الشهادات، وكذا أفول القيم والأخلاق عن الحقل التربوي. وتفسر هذه الحقائق ،إلى حد كبير، المفارقة الكامنة في عجز الحكومات المتعاقبة ـ بكثرتهم التمثيلية سياسيا ـ عن إيجاد آليات حاسمة لإدماج هؤلاء في مجتمعهم أو استرداد حقوقهم المسلوبة من خلال توفير عيش كريم، وتحسيسهم بانتمائهم الوطني. والواقع أن حقائق كثيرة لا تخرج كثيرا عن الدروس الأساسية - التي غابت بنسب متفاوتة – عن التصورات العرجاء التي ظلت تحملها السياسات التعليمية المتعاقبة، والتي ظلت عنيفة و مهددة للتدهور والضعف طويل المدى اللذان جعلاها منكشفة أمام شتى صور الإختلالات المجتمعية.
لقد انقسم الباحثون في تشخيصهم لأزمة التعليم بأسبابها وتداعياتها المباشرة. ومازالت بعض مظاهر الانقسام والخلاف قائمة في الفكر التربوي والممارسة السياسية الملتزمة على السواء. ونحن لا ننوي الدخول في مناظرات جديدة حول المواقف. إذ أصبح لدينا حصيلة من الدروس التي توصل إليها هذا الفكر وتلك الممارسة بشتى تياراتهما، وهي حصيلة كافية لتبين المفارقة التي نقف أمامها الآن، ويتعين علينا فهمها وتفسيرها تفسيرا كافيا للخروج بتصور تربوي يحقق المطلوب. ومن أهم تلك الدروس المتفق عليها بين شتى تيارات الفكر التربوي والممارسة السياسية الملتزمة ضرورة عصرنة وتحديث هذا الفكر وتقويته. فعين العقل إذن أن نحقق إصلاحا تربويا جذريا من خلال تسييد العقل والعلم. وصياغة مشروع متكامل بعيد عن السياسوية وإقصاء الآخر. ليقوم هذا المشروع تحديدا على المزاوجة بين أفضل الإنجازات العقلية ـ ذات البعد الكوني والجذور الضاربة في شتى الحضارات التي أتبثت جدارتها في هذا الشأن، مع أفضل الإنجازات الثقافية والفكرية والعلمية المحلية – والتي كثيرا ما يتم تهميشها-.غير أن التعلم والاستفادة من دروس الماضي في هذا الشأن، ليس مجرد عملية ذهنية أو حتى ثقافية، برغم أهمية هذا المستوى لحدوث التعلم الخلاق أو المبدع الذي يتجاوز القياس وينطلق لإعادة تكوين الموقف التربوي. فالتعلم له مستوى آخر تماماً، ومن دونه لا يحدث استيعاب لهذه الدروس، ونعني تحديدا مستوى الممارسة النقدية.
لحسن كجديحي
المسائية العربية