منتديات الشموس للتربية و التعليم بالمغرب

أهلا و سهلا بك زائرنا الكريم في منتديات الشموس للتربية و التعليم بالمغرب .
انت لم تقم بتسجيل الدخول بعد , يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى .
نشكر لك زيارتك لموقعنا، آملين أن تساهم معنا في بناء هذا الصرح، لما فيه الخير والبركة .



انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات الشموس للتربية و التعليم بالمغرب

أهلا و سهلا بك زائرنا الكريم في منتديات الشموس للتربية و التعليم بالمغرب .
انت لم تقم بتسجيل الدخول بعد , يشرفنا أن تقوم بالدخول أو التسجيل إذا رغبت بالمشاركة في المنتدى .
نشكر لك زيارتك لموقعنا، آملين أن تساهم معنا في بناء هذا الصرح، لما فيه الخير والبركة .

منتديات الشموس للتربية و التعليم بالمغرب

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    كأنني أناـإسماعيل أموسىـ

    ghandi
    ghandi
    عضو مميز
    عضو مميز


    تاريخ التسجيل : 19/10/2009

    GMT - 1 Hours كأنني أناـإسماعيل أموسىـ

    مُساهمة من طرف ghandi 25/10/2009, 08:08

    إسماعيل أموسى

    نــص روائـــي






    1- بعد الرحيل
    مرت سنة كاملة على حادث الفراق، لكن الحديث عن طلامسه لا يزال يعم أرجاء البيت والشارع والمدرسة... ما تزال أفواه العشاق تحتسي الشاي، ونظرات بعضهم تقع على نظرات الآخر في انغماس يهلل بالخوف من السقوط ورقة تعتصرها مكائد الزمن، فيزحزح الكرسي عن مكانه إنذار بحتمية الاستيقاظ من شراك تلك التفاصيل العابقة برائحة الموت.

    " نعم يابني، كيف حالك؟ اشتقت إليك، حضرت لك اليوم طبق الأرز بالخضر وحسوة الدجاج التي تحبها. إنها لذيذة أليس كذلك".
    ثم تصرخ في قهقهة مختلطة بالنحيب: "إلى أين أنت ذاهب؟ لا تتركني وحيدة! أرجوك...!"
    كانت تلك أم سامي وهي تحدث صورته المكسر زجاجها، وهي ليست بالأحسن حالا من الأب القابع في ركنه الموحش، الصمت وحده يراقص رموشه، وقد استفزت نظراته المتقطعة حمرة غلفت بؤبؤ عينيه، وحسرة ألجمت صخب الحركة المعتاد بجسده...

    بعيدا عن المنزل، بالشارع الرئيسي للمدينة، فضاء فسيح تتخلل جنباته مواقف سيارات، ولوحات إشهارية، وأيضا أشجار نخيل باسقة، ترحل بك في تأوه وضيق مستمرين نحو الضفة المأمولة "مجد العرب الآنف"، وفيما الأمل؟ ولماذا الأمل؟ وقد طوقت جذعها عشرات المحدقين من شبابنا التائه بمؤخرات العوانس والمقبلات على العنوسة. أو لهذا تغير طعم البلح هذه الأيام؟! كيف لا وهي ترتوي من دخان تبغ ملفوف يزكم الأنفس. غير أن أكثر ما يعمق جرح المتأمل لهذا الرسم التراجيدي.. مدرسة تعلو بابها الحديدي المعوج يافطة كتب عليها "مدرسة الفضيلة". الغرابة لا تكمن في الاسم، ولا في صورها الآيل للسقوط، ولا حتى في جدرانها المشققة... أكثر ما يثير الدهشة، وينفر للتهكم أكثر منه للتقزز، انفرادها بموقع التوسط بين مسجد عريق أهمل العناية بمظهره الخارجي، وحانة أقل ما يقال عنها تحفة معمارية تستقطب أنظار المارة، بابها مذهب منقوش، وواجهتها مرصعة بكتابة أجنبية عريضة تحمل معاني الترحيب، كل شيء فيها يدعو للإغراء، ويجلب على العين حمأة اكتشاف أروقتها.
    صوت يعلو مئذنة المسجد، تعتلج به عسر شهيق وزفير، الظاهر أنه آذان شيخ مقبل على الرحيل، غالبته الأيام شوقا لامتطاء صهوة النفس الطويل.
    كانت حمرة الغروب قد بدأت في الإنقياد لسواد عتمة تحمل معها الكثير من الضجة. حشود من الناس تتقاطر تباعا على مطلع الشارع، منهم من هجر الدنيا في ذلك الحين، وشفتاه تتحرك في رجفة غريبة وكأنه يردد تعويذة أو شيئا من هذا القبيل. وفي حركة خاطفة يلتفت إلى باب المسجد، ثم ينفض التراب عن حذائه وقد شقت على ثغره ابتسامة أغرب-ابتسامة من لاذ بالنصر بعد مخاض عسير مع المجهول- ، ومنهم من استقلته خطواته المتثائبة باتجاه أناقة الحانة، ومنها نحو سراديب اللأناقة، حيث يصير المجهول رغم رثاثته رفيق الدرب في غياهب لغات الجسد، حيث التجرد من كل شيء يخطر على البال، من الملابس، من الزمن، من الذكريات... ، والأهم من كل هذا وذاك، من الأقنعة. بينما تواصل الشرذمة المتبقية سيرها والتناغم يلوح بشرارته بين الحركة السريعة وهي تنقض على الخطوة المتباطئة، وبين تلك الاستدارة الممشوقة وعبارات التودد المقتنصة للذهن وإن كان الهدف جسدا، ودائما ما تكون توطئة الانهزام لهذا المجهول بالاسم المستعار.
    " لماذا أخلع حذائي وقد خلعه غيري قبلا مني؟ ولماذا أزيل القناع وقد اعتدت ارتداءه، وبعدها أظهر بمظهر مفضح؟ فالحقيقة دائما مفضحة، سأتجرد فقط من اسمي، هذا هو التجديد الوحيد الذي يروقني. ألا يدعوننا إلى الإبداع؟ سأبدع أيامي أسماء لم تكن لتخطر على بال أمي يوما"، وبعد لغة خافتة، يتقمص شخصية جديدة، بلسان جديد واسم جديد:
    " مساء الخير، وائل، هذا اسمي! فنان تشكيلي"
    تتوقف الفتاة المتحجبة على مقدمة أصابع قدميها، وكأنها جندي استشرف حدود العدو، وفي نظرة خاطفة يملؤها الفضول، تحدق بالشاب الذي استشعرت خطواته بعدما ودعت خطيبها عند موقف الحافلات. استأنفت الفتاة مسيرها مطأطأة الرأس،مطأمنة العين في مشية متثاقلة توحي باللامبالاة المشوبة بالإغراء.
    يتحين وائل الفرصة ويستطرد قائلا:" أرجوك! أتوسل إليك! لا تحرميني العيش بعد موت سقتنه الأيام أنفاسا خائرة العزم".
    تومئ الفتاة بابتسامة خفيفة أدرك صاحب الهوية المستعارة مفادها، فأخذ يختلس المسافات، ويطوق حركة الفتاة التي أعلنت إرهاصات الاستسلام لشراك كلماته المتلاحقة.





    2- برقية من مجهول
    الساعة تشير إلى السابعة صباحا، صوت المنبه يدوي وكأنه يدق ساعة الحسم في أمر عسير. يقفز سامي من مكانه وقد استيقظ لتوه من كابوس مزعج.
    يستمر المنبه في إصدار رنته الهوجاء، فيما انغمس سامي في دوامة استحال عليه الخروج منها. يحاول استرجاع أحداث الكابوس فإذا به يماثل الفشل في استرخاء قعص الحياة بدواخله، ثم يعاود الكرة لكن دون جدوى. يقبض بقوة على طرفي الغطاء، يغمض عينيه عله يتذكر ولو المشهد الأخير...، استرخت أصابع يديه لتمسح ببطء العرق المتصبب من جبينه، يمسحها كما لو أنه يزيح وزر الموت عن عاتقه. الظاهر أن رجاءه قد انقطع في التحايل على الذاكرة. يلتقط المنبه لإسكاته، فإذا به ينظر إليه في تأمل غير معهود. الصور الوحيدة التي تذكرها: أم تنادي ابنها للإفطار، طفل يرتمي بين ذراعي أمه، أم في ساعة متأخرة من الليل تستغيث الجيران لنجدة ابنها الغارق في حرارة وعرق المرض...، وفي حركة خاطفة يستجمع سامي قواه المستنزفة أثناء صراعه مع الاستحضار، تلاها شهيق وزفير طويلين حاولا تمزيق غشاوة الفشل.
    إحساس غريب ذلك الذي خالجه وهو يغادر سريره بعد ضنى ليل تسكعت به أفكار منتحرة. بعضها اختار مرقده تحت المكتب والكرسي، وبعضها نسج نصا ثائرا بسلة المهملات. إحساس النصر بطعم الهزيمة، إحساس تواتر به الغريب بالأغرب، إحساس الفرحة بنكهة الحزن، ومرارة تقاذفتها ثنائيات لم يسبق لها أن جست حركاته المائلة إلى الترنح منها إلى القوام.
    يتجه مباشرة إلى المطبخ بالطابق السفلي، فإذا به يزداد حرجا بعدما اكتشف قدميه من غير نعل وهما تتحاشيان برودة الدرج. استسلم للصمت والسكون هنيهة، ثم بدأ يغمغم وقد استوأمت حرارة غضبه صقيع الأرض:
    " الأجدر بي أن أفعلها كل صباح حتى لا أقلق راحة أهل البيت". يقولها وقد احتضن سامي البارحة والماضي خوفا عليه من الانكسار، يقولها وقد توجس من كل شيء يمكن أن يباغته كعدو وإن سبق واعتاده صديقا: من الجدران والمصابيح، من الأبواب، من كل محيطه... بلغ به الأمر إلى الخوف حتى من جسده....
    نزع سامي مرة أخرى إلى التوقف في صمت زادت من وحشته ظلمة المدخل المؤدي إلى الفناء، استغرق في انبهار هادن فيه جميع حواسه بالارتكاس.
    توالت الثواني الطوال دون أن يحرك ساكنا، وحدها دمعة متلألئة ترسم فيلقا براقا على خده الذابل أعادت الأمل إلى وجود روح داخل هدا الجسد المجمد، خطا خطوة أولى استعرض فيها جميع حركات المد والثني، خطاها مثلما يستأصل جذرا عاصيا من التراب، ثم خطا الثانية والثالثة وطرفاه يرتعشان، ليحاول تثبيتهما كما لو يعيد غرس الجذر المبتور في مكانه. يتقدم وصور متراقصة وجدت لها رحما وسط الفناء، تنبعث لتتساقط متوشحة ضياء الطهر والبراءة على ناظريه، ومنها لتجد لها وقعا عنيفا على الذاكرة:
    - طفلان في سن متقارب يلفان حول والدتهما الممسكة بصحن الحلويات وهي تصرخ بأعلى صوتها: " سامي، أسعد، كفا، لقد أصبتماني بالدوار، هدئا من روعكما! سأضع الصحن على الطاولة!".
    - -أب وطفلين يساعدون الأم في عمل البيت والسعادة بادية على محياهم، وفي رمشة عين يتحولون من مرتبين للوسائد إلى متعاركين بها.
    - أسرة من أربعة أفراد مجتمعة حول المائدة، والأب ممسك بطنه من فرط الضحك سخرية من مظهر الابن الغارق في صحن الأرز، فيما يتبادل الآخرون ابتسامة محتشمة.
    - طفل يخطف رضاعة من فم أخيه الرضيع وقد تعالت من الدرج قهقهته المتواصلة، وأم انقطعت أنفاسها من شدة تعب ملاحقته.
    - يافع في السابعة عشر من عمره يقرأ مضمون ورقة بين يديه بصوت عال:
    " سألني البعض عن وجودي، فأجبتهم: موجود بضميري، ميت من دونه، أحب الحياة بجميع ألوانها، أخاصم الصمت والفراغ بسواد قلمي، ويخفق بياض المصباح في ظلام غرفتي، أعلن للجميع أني قادم، وسأجعل من ألوان الطيف اسمي، تتذكره الفصول على مر العصور. سأنفض عن العالم رماد الجهل وأسقيه الحكمة بدلا عنها. خلقت للاحتجاج، فلا وصال مع خائن، ولا ضلوع في المشبوه. سألوني فأجبتهم: حب الناس أمانة تلازمني. فلا سحاب خوف يوقفني، ولا مطر صيف يعجزني، صوت الثوار صوتي، وقد عاهدت نفسي على الكلمة الصادقة أخرجها من فم البكم وأسمعها أذن الصم..."
    اقترب سامي أكثر من صورة الطفل:" لا أصدق نفسي، كأنه أنا، بل إنه أنا!"
    وفجأة اتحدا في صوت واحد:" خلقت للرفض والاعتراض، خلقت لأستنجد بعلمي ضد الظلم والقهر. سأملأ المكان والزمان بروحي قبل جسدي".
    استعاض سامي تلك اللحظة دموع الدهشة بأنفة حلت عقدة لسانه، فراح يردد الكلمات كسيل جارف:
    "مغربي أبي ، إن سألت عني السنا، حطك البرق إلي، هاهنا مهد الهمم، هاهنا العزم اهتدى، هاهنا الدمع أبى، أن يكون لغير الوطن، مغربي أبي ، إن سألت عني الشموس، قمر أنا أضيء غيرتي بين القمم، إن سألت البحار، إن سألت الأمطار، إعصار أنا يداعب الأكوان، إن سألت الأقدار، أنا الورد، أنا الطود يزف الألوان، هكذا يعرفني الزهر، هكذا يناديني الطير.
    أنا النسيم في حلة بستان، إن راقصتني الريح تعبت، أنا النسيم من ملة إنسان، إن صادفه الغريب لف الدنيا وطرق بلادي".
    اتحد الصمت بالصخب، اتحد الماضي بالحاضر، اتحد الجسد الهزيل بالقوام العتيد، واتحد الزمان بالمكان، في حين كانت الروح واحدة. وسرعان ما تلاشى هذا الانصهار، وانتهى بانفصام تعاتبت فيه القوة بالهوان، ليجد سامي نفسه بين أحضان الصمت مرة أخرى. وأمام ذهول واستغراب والديه. كان الوضع صعبا حتى يتدارك الموقف ولو بحرف مبرر واحد يشفي ظمأ الاستفهام. وقبل أن يبادر أحدهما بالسؤال ، لوح بكفيه وكأنه يريد أن يقول" ليس هناك من أمر يستدعي القلق" ، أماء من غير أن ينبس بكلمة واحدة، استحال عليه الحديث ، فخيم الرعون على الشفاه. عبارة رقراقة تتمخض في ذهن الأم، لم تجد لها سبيلا هي الأخرى إلا في حركة يديها وهي تجذب سامي بقوة نحوها:" أنا أعرفك أكثر من نفسك يابني" ضمته بين ذراعيها، ومن غير أن تعي، أصدرت تأوها غالط القصد في نفس سامي، وكشف حيثيات الخوف المرابط على صدره، طبطبت عليه كما كانت عادتها كلما شرد به الضيق، وألقت به الأحزان على هامش العالم، غير أن احتضانها هذه المرة كان أشد وأعنف، وكأنها تصارع أحشاءه من أجل أن تمكث في مكانها. استسلمت الأم لأحلى ذكريات الماضي، وجرفت معها حنين الأشخاص نحو زمان بائد غير آبهة بالنحيب، شنت حربا عشواء على البرهة، واختارت المكان بين أحضان ابنها، وتحت أنظار زوجها، التقى النقيضين، فكسر القوي بالأقوى : " لا محيد عن الواقع والحقيقة، البارحة نعيشه الآن وفي المستقبل، ونحن أهل الإيمان، ولا مفر من القضاء والقدر المقدر" . كانت هذه أولى كلمات تلفظ بها أبو سامي، كان لها الوقع في أن تلقح الأجواء بطعم اليقين.
    " لنعد أدراجنا، إنه بخير، أليس كذلك يا سامي؟"
    رد عليه بصوت باهت متقطع:" أجل... أجل...". خرجت من فاهه مصفدة كما لو أنها صدرت من شبح أو طيف أو ما شابه، تساقطت منه الحروف لينبعث صداها أيتما. انصرف الأبوان وفي قرارة نفسيهما تقبع حسرة غير متناهية، فإحساسهما دائما لا ينفك يصير توأم الصواب. ضم الأب أم سامي قائلا:" هوني عليك، سيكون بخير، ماهي إلا سحابة صيف كالعادة، ومقدر إن شاء الله أن تزول، ويعود الدفء إلى جدران هذا المنزل". أراد أن يخفف عنها وطأة هذا المصاب، ولكن كيف بفاقد الشيء يعطيه؟
    دبت حشرجة ثقيلة على فؤاد الأم وهي تنادي ابنها:" سامي...بني... الفطور جاهز على الطاولة". ما كادت تنتهي كلامها حتى غاصت أنفاسها، وتراخت عضلات جسدها. أسرع الأب إلى التقاطها قبل أن تقع على الأرض. لقد تورط هو الآخر في شجن ضالع في التأبط والغرابة.
    " هوني عليك أم سامي!". حملقت إلى وجهه في نظرة يملؤها اليأس، فيما تشاحن بدواخلها اعتذار قزحي." لن يكون بخير، ليس بخير، إحساس الأم لا يخطئ".






    3- شطيرة الأقراح تتوزع
    على الطاولة وسط الفناء،انصاع الابن لنداء البارحة. أخذ يتأمل الفنجان ورائحة مسحوق الشوكولاتة المتصاعدة جرفت تفكيره نحو دروب التفوق ونشوة الانتصار.
    أمسك ملعقة صغيرة بيده اليمنى، في حين تناولت اليسرى قطعتين من السكر، ألقاهما ببطء وبالتناوب وكأنه يسخر من الفنجان. علت البهجة محياه وهو يردد هاته الكلمات:" ذاب الصلب الحلو في السائل الأحلى، الطيب لا يحتضنه سوى المكان الأطيب، كذلك الإنسان... كذلك الإنسان". كررها من غير أن يمانع في التلويح للسماء بشروده، فاستحالت بهجته انكدارا. طأطأ رأسه وأخذ يخاطب نفسه، وأصابعه تراقص الملعقة، تصحبها مقلوبة يمينا، وتترفق في إنزالها شمالا:" أيها الطيب الساكن بجوفي! أطلب منك المغادرة. وإلا فأنا من سيرحل بك حيث نصير وحيدين". جاشت دموعه، وتصاعدت شهقاته مستأنفا الحديث:" ارحل! ارحل! تعرفني أكره الوحدة".
    غادر الطاولة متجها نحو غرفته، خطا الخطوة الأولى على الدرج، ثم أرسل نظرة ثاقبة كالسهم نحو قدميه، فابتسم ناقما:" لا بأس، حياتنا صعود ونزول، ننزل في هيئة ونصعد في هيئة مخالفة". فتح باب غرفته، فإذا بجيش عرمرم من الأفكار تستوسد مخياله، جميع الأزمنة ترصدته في حلة هيجان، سابقه الحاضر القريب في تذكر الآسن:" سبق وطلبت من أمي ألا تتعب نفسها في إعداد وجبة الإفطار، لماذا لم أنتبه إلى ذلك؟ لقد خالفت العادة هذا الصباح!".
    تملكه خلد الغرفة، ونازعت أساريره وحشة الصور المعلقة على الجدران: الصبا يزمجر ثانية، ساور لحظاته غوْلُ الانعتاق واللانعتاق، التحرر المقصود من غدر المكان، والصدفة الجالبة لغلس الرؤية، والمجبولة على الوعد والتوعد. فطن لإلحاح الروح، واختار البنان مسارا إهليجيا، انساب جميل الأثر خفيف الظل يرقص رقصة الصفر، وأنشد الاستفهام بؤرة سحيقة تعانق الزمن: "كيف أصير صديق الحاضر فأنسى الماضي، ولا أبالي بالآتي؟". كفت الحياة عن مصاهرة المكان وكأن النقمة حلت، لقد عزم العصيان، وكشف عن نفسه الهلاك بسؤال العصاة.
    هبت خسفة ريح أقوى من النسيم حملت معها وريقات الأشجار المجاورة عبر النافذة. هم سامي نحوها لإغلاقها، لكنه عجز عن الحراك، فبادرته نفسه بالانحناء، التقط إحدى الوريقات الساقطة على سريره، كانت خضراء ذاهبة إلى الصفرة.
    " نحن في أولى أيام الخريف، للأسف تمام الشيء في نقصان أشياء، وكمال الأشياء في تمام النقصان، الذكريات لا يمكن تلمظها سوى في دروب المعاناة، المهم كيف تصير نقطة بيضاء داخل هذا المسار، و تثبت على ألا تلامس الخط الأسود، مستحيل أن تكف الأرض عن الدوران، و لا عقارب الساعة، وضرب من الخرافة أن نعيش فصلا واحدا. فقط أنت من قد يكف عن معاينتها حين تتطرف بخروجك عن حيز المسار"، هكذا واصلت النفس حديثها.
    كانت الساعة تشير إلى السابعة و أربع و خمسين دقيقة عندما حلق طيف أسعد على خلفية التشاحن الصامت، و قطع على النفس تعاذيرها: " أسعد ...اسم على مسمى، اشتقت إلى محادثته، وحده يستطيع اجتثاث عقدة الضيق هاته المهووسة بالتملك". و ما هي إلا ثوان معدودة حتى انكشفت ضبابية الخبث الشيطاني الملعون عن سماء البيت مع أول إطلالة لوجهه الصبيح، و ها هي ذي رائحة المسك تفوح على بعد أمتار، هكذا كانت عادة دخوله المنزل، و هكذا كان الأثر يهتدي طمأنينة يستأنس بها الجماد قبل ظل الروح، أذكار و تحاميد و تعاويذ، صعد الدرج مباشرة و عيناه تؤشران للهفة، و ابتسامته المغمورة بالانشراح، تبرك المكان بصوته الدافئ يخاطب سامي:
    - حمدا لله، ظننتني سأفوت على نفسي سرقة هذا اللؤلؤ المعقود على فمك.
    - باخ باخ أيها المتقنع باسم الصلاح، إليك عني! أتحسبني ممن يفرط في إظهار بريق العقد حتى تنتبه لوجوده.
    - حسنا سأعدل عن السرقة هذه المرة فأناولك المقابل.
    - شرطي أن يقابل الثمين بالأثمن.
    - فليكن كذلك.
    احتضن أسعد سامي و ارتمى به نحو السرير، ثم فاجأه بدغدغة و دغدغات كانت كافية لرعش الذكرى، تهيأت الابتسامة لقهقهات كان لها التحرر بعد اعتكاف تصدأت له المشاعر.
    - أتذكر ذلك أيها الجاثم في حزن الخرافة؟
    - كأنه البارحة!
    - ابتسم، قهقه و اخرج من صوتك!...تفقه السعادة كما الماضي ! بالمناسبة عيد ميلاد سعيد.
    ضمه إليه في عناق حار، فيما تهشمت الكلمات أسفا على تقاسيم الفراغ بمخياله: " ليتني أعلم تاريخ نهايتي، النهاية التي سأخلص الاحتفال بها، هي ميلاد شخص آخر على جغرافية مخالفة، ميلاد الافتخار بالاسم أو التملص منه".
    حدج أسعد بنظرة من عينيه العسليتين، و قد برقتا منهما وميض يسلي بحياة في حالة استعجال، و استطرد قائلا:
    - حسام لا يزال يغط في نومه، أيقظه و ناوله فطوره، و لا تنسى تولي مهمة إيصاله إلى المدرسة.
    - تبسم ابتسامة خفيفة بعدما تلفظ نفسا طويلا، وهم نحو أسعد يصافحه و قد ظهرت بعض أسنانه الأمامية. صرخ أسعد إثر ابتسامة سامي قائلا:
    - و أخيرا نلت منك، لقد أفلحت، ها هو ذا العقد المتخفي يظهر!
    استمر سامي في ابتسامة عريضة أبرزت باقي أسنانه.
    - هذا العقد لأجلك أنت فقط، ناولني قميصا و سروالا من الدولاب وكفاك تهريجا!
    - حالا ! أمرك مطاع سيدي!
    غير ملابسه و ارتدى حذاءه، ثم أسرع إلى التقاط محفظته فوق المكتب.
    - أعتذر، إني في عجلة من أمري، تركت لك السلامة.
    ثم رمق أسعد بعين متأملة خجولة.
    - سامي لا تنسى ذكر الخروج من المنزل!
    أثناء نزوله، و قبالة النافذة بالدرج، استوقفه منظر الحركة بالخارج.
    " الزمن يمضي لا يرحم، و الناس في لحاقه لا ترحم بعضها، حتى مراسيم الدفن والعزاء تمر بسرعة، و تنسى بسرعة، ليتهم يعرفوا قيمة هذا العقد عندما يلج الفاه بصدق".
    و من غير أن يفطن، وضع رأسه على زجاج النافذة متحسرا، و كالبه ألم عميق عمق التاريخ بجغرافية العطش و الهروب: " إنه تأبين مستتر لعروض النقم مرسومة بألوان مختلفة على كل محيا".
    و سافر بعيدا عن موقع قدميه، حيث بارحت عزائم السكون تخور، وانهال التذمر و الضوضاء يعتمران الفكر، و تلونت اللحظة بصورة مكللة بمزيج من الحنو والقسوة، فبثينة التي كانت أصل الفعل في الحياة و غايته، باتت سرابا يعوي تمردا ونكوصا، وما حال الفؤاد المكلوم يشهد الهبة تنتحر صحبة النفائس و العطايا، وبادرته النفس ترثي معركة البقاء:
    " رمادا صرت أيها الحب، فأنى لك أن تصير تمثالا، هجرك القلب فعدت مشردا من غير مأوى، و حللت ضيفا تسامر الأموات بقبور العفة، ترى أين أجد باحة الأمل المفقودة؟ أين يمكن أن أعادل سهريات الأزف أناقة؟ حبات العقد من غيرك مبعثرة منثورة. وواصلت النفس عتابها:
    " قلقي تربع السهاد، من أن تميت الأشواق و الأحزان الحب و الأعياد، قلقي طود استوطن السواد، من أن تستبيح الأوجاع وأد الحب عبدا بين الأسياد، ضالتي في المتع صفر يسافر في الأزمان، و الغالي دمع يرجف له الجفن في البعاد، أستل من وحدتي الوعد، و أموج في بحر العهد و العد، بل خبريني عذراء السماء، موطن الآه في المطر، كي أغسل القدر من وجفي، و أحف النيران رمادا، بل خبريني عذراء السماء، بعيدا عن سراب العدم، وحي الهداء في صحراء الألم، كي أسابق الموت، وأعزف البقاء نشوة الحب و الأعياد".
    وصدر من جوفه صوت هامس ينادي و كأنه يطلب النجدة: " متى سيغني القمر؟ إني أذبل، إني أحترق ... بالله عليك زمردة اشتياقي، متى يقطب الاختيال، وتنتعش الليالي السقع، و يرتوي العدل من ظمأ الجفاء؟ تعبت و تمزقت بأحشائي صولات الصبر وثورات الاستيكان، ربما سأعتزلك يا دنيا مرغما مقهورا بعدما غنمت منك الدحور.
    اتجه صوب الباب المؤدي إلى الخارج، و قد طاردته هواجس الماضي المتهدج وسط الفناء مهددة إياه بخيبة الاستحضار، لكنه أصر على ألا يلتفت إليها وينصاع لإغرائها مستسلما. جذب الباب نحوه بقوة، فإذا بأنوار خافتة ضاربة نحو السواد هيجت عيناه، واستجاب لها جميع بدنه بالقشعريرة والتوجس، ولاحقه من خلفه صوت يدعوه للتمهل، فيما تبتلت أفكاره وانساقت لجدلية الغرابة المطبوعة على الأجساد المترنحة يمينا وشمالا، منها من قارب المغيب المترهل،ومنها من تعذر عليه الزحف والتسلل نحو الشروق المغري، ومنها من أوشك على هجر الفجر الداكن، المهم أنها كالسحب تصول وتجول، وتترحل، لكنها لا تدري أنها مكشوفة الحركة، يستعير منها قيد المكان، ويتجبر الزمان في عودها وغيابها. وقبل أن يتقدم خطوة، حطت يد على كتفه تومئ له بالتوقف، تحين سامي عبث الفضول وطرح عن نفسه وزر الإعراض، ولب النداء مرغما، فما كان له إلا أن استدار عله يتصالح مع الماضي قبل أن يستشرف باقي الأزمنة التائهة في جثمان الغرابة والمجهول. فوجئ بأخيه أسعد مبتسما كعادته وفي يده سبحة عكست حباتها ألوان الطيف.
    -غريب أمرك هذا الصباح! ألم تسمع ندائي؟
    وقعت أنظار سامي على السبحة من غير أن تتجرأ على الارتفاع، وتغافلت مسامعه الوعي بآخر الكلمات، إنها فتنة الإغواء متجسدة في تلك الألوان. وكأن الحياة مجتمعة كلها في السبحة.
    -سامي، أتتجاهلني عنوة؟!
    انتبه لصراخ أسعد، ودنا إليه ممسكا بالجزء المتدلي من السبحة.
    - إنها لي، أليس كذلك؟
    - إنها كما تقول، هدية متواضعة.
    - أعلم أنها ليست كذلك، بريقها يوحي بأكثر من دلالة.
    - فلتكن الرفيق الذي لا يفارق، وجالبة الحظ السعيد!
    - وكأنك تقرأ ما نقش بصدري، حاجتي هناء يرام، غير أن إصابته في النفس تنأى بعيدا عن عين المصاب.
    أخذ السبحة من يد أخيه، واستلذتها أنامله تتحسس أجزاءها المشتعلة بطاقة غريبة، ضمتها برفق، وارتحلت عيناه في الأفق الأزرق، واستغرقت الروح تخاطب في إسهاب دفين عدوا في خض الخفاء:
    " إني على العهد يادنيا وإن كنت مجبولا على الكره والصد، إني على العهد، وسأصرم الحقيقة من نبل العزاء، وستذودين في يوم لروح مثل هاته الروح...، حتى في الفقدان تعج الأرض بالأساطير. وما الأسطورة إلا حقيقة استهواها الفكر بخيال من نبع الماضي والطفولة. النسائم تاهت وبلغ بها البحث عن النفس الزكية إلى طوْل التشرد".
    خلص بها العتاب إلى استشعار الندامة في سبق الزمن. عانق سامي أسعد ليواري شيئا من انزعاجه، وكظم ألم التأسف بعبارات الشكر، وضمر هولا متقاعسا بحجاب السؤال:
    -أكان هذا الثمين الذي وعدتني مقابل العقد؟
    - فليكن عهدنا بصونهما، عقد ينبض من الماضي، وسبحة تنهل من داوم التذكر.
    سرته كلمات أسعد، وأهمته بطلب إيحائي للانتصار على ركام الأوجاس الدفينة في صلب تحركاته، وانجلت عن حواسه غشاوة التملي للشؤم والتطير، وأهله صمت يدعوه للانخراط في لعبة جديدة، لعبة تحفظ الاستمرار بالمقايضة.
    لكن سرعان ما وضؤ بمساحة الانفراج الصغيرة بريق يهلل بالزعم والانفلات عن القصد الذي عاش لأجله، وبارحه إيمان معقود على المبادئ، وساوره اليقين في لفظ طالما قومه ساعات العسر:" للحب رائحة، وكيف بوسعها ألا تفوح مزارع الدراق؟".
    حدج أسعد بنظرة اختزلت أريجا عابقا بأسف عذري، تلتها طأمنة عالقة بين أرقام المجهول. تهيأ الرد لانهزام مشل قاده حديث أسعد نحو آخر مسمار يدق على النعش المخلد، وكانت لعبة التخافت كافية لأسر الخطاب:
    - هيا! رافقتك السلامة! ألم تعد بعد في عجلة من أمرك؟!
    لقد فار بأروقة الكتمان حدس حزين حزن الشموع بالمدائن.





    4- الطفولة... في آخر احتفاء
    أذعن سامي لحديث أخيه، وغط في طول مسيره نحو مقر الجريدة في مونولوجيا ناقمة:
    " لم أعد أتذكر متى انعطفت بي سلسلة ذكريات، أولى حلقاتها مأثور سرمدي للحظة اختناق قوضت فكري، ومعها غفت العين غفو الحالم بالرحيل بعيدا عن أي أثر للمنية، ولصدى الأنين، عن أي صخب مدو للموت...، عن الطوباوية، والتفكير المونولوجي العابث بسيرة المأتم والنعش والحفر وموالاة التراب، عن اللون الأبيض، عن البكاء والنحيب طويلا، عن الهمس بالحنين، عن لوعة الشوق...، إلى أن يحين الدور الذي لا محيد عنه، حيث سيُدْعنُ الجسد لمغازلة الديدان، وتلود الروح لخالقها ومحاسب حرثها وحصادها. إنه الرحيل، صورة تجش عبر سكون أشخاصها وأشيائها لحظة الفراق الأبدي أو المؤقت. لكن كلاهما قاس وآتية حالك، واستحضار شريط آنفه مرارة تعقبها رغبة جامحة في التخلص من الوعي والانغماس في متاهات اللاوعي وأضاليل اللاشعور. إني أشعر بشيء غريب موحش يقترب، شيء من عداد المستقبل، لا هو من إرسابات ماض وأمس فأكد من أجل تناسيه، ولا هو من إملاءات الحين والحاضر فأرتضي تلافيه، شيء غريب أعيش مرارته وأتنفس وعيده حتى قبل أن يُسْدَلَ الستار عن هويته. أشعر وكأنني اُقْتَلَعُ ببطئ من جذوري، أود التمسك بأي شيء حتى لا يفوتني التمتع بآخر لحظة حياة، لكني ألتفت، فلا أجد حولي سوى حبال واهية من أحلام خادعة، أضغط عليها بكل قواي، و النتيجة أن أناملي تترصدها قطعا أشلاء من أوهام، أستغيث فلا ألحظ من يأبه لنجدتي، ولا من يجد بُدا في انتشالي من سياط هذه المخاوف".
    ولما بلغ المدار وسط المدينة، عزه خطب الزمن، فارتد ببصره يناشد الرحمة في آثار أقدامه، علها تصمد أمام لعبة المارقين، فهي وحدها من يحفظ الاستمرار، وتطلع ناحية العابثين بأسرار الرعاع خلف الأسوار، فعاوده نفس الصوت يُليكُه من خبر الروح:
    " عند مفترق الطرق، الزمن يعتلي منصة الإفتاء، يبشر تارة وينذر الأخرى، قد يرسم ابتسامة كما قد يشق انتكاسة، متى؟ بعد ثوان، بعد أيام معدودة، البارحة، غدا...؟ الجواب يستعصي في الحين، غيض من فيض، مجرد التفكير في وضع علامة استفهام يحمل معاني الاستسلام. صبرا عليك يازمن، بالكاد تماثلت للشفاء، لكن هذا لا يعني أني من سيقدم على الانحناء، أتظنني أهاب صولجانك، أم تقترح أن أخشى نواميسك؟ مخطئ، ارزح على أنفاسي كما يطيب لك وتشاء، فاهي راغب عنك وعن الآه، هذا جسدي برقية تروي امتعاضي، سحرك بائد يازمن، كنت غير بعيد مقصلة، صرت أمام ناظري مهزلة، أتترصدني قويا وتطيح بي ضعيفا؟ لن تنال مني البتة، التقطني صورة صماء من الزاوية التي تحلو لك، سأضحك متى أشاء، وسأبكي متى أريد، سأنام قرير العين، ووصمة عار ألا أحلم. أتقترح يازمن أن أخوض هذا السباق كعداء؟ لن أقبل أن تردي حياتي مأساة ككبش فداء، أنا من سيعلن حالة الشرود، البطاقة الحمراء بيدي اليمنى، وأصابع يدي اليسرى من سيدق جرس الانطلاق. أكرهك يازمن عندما تفتي بالفراق، أكرهك وأنا من يمقت فراق الأحبة والرفاق. لماذا التصافح للقيا ينتهي بالتصافح من أجل الفراق؟ من الأجمل يا ترى قمر الليل أم شمس النهار؟˝.
    تباطأت نبضات قلبه وهو يحاذر جوابا بعدما طفق هدرا يكرر السؤال في عسر، ووافته صورة صبي مد إليه كلتا يديه مرددا:
    " كلاهما ياعمي، كلاهما جميل، هكذا تقول أمي، فلا سبيل للاعتلاج. إنها الحكمة ترنو السلام من وراء السماء".
    -إنها البراءة تغمرك يابني، كأنك نجمة ترقص وسط السماء.
    -بل أنا نجمة حطت من السماء، وقد جئت أهديك السبيل بعدما ضللت سلاحك في حرب السؤال، وإذا لم تصدق افتح عينيك!"
    تلاشت الصورة أمام ناظريه، وفوجئ بصوت طفولي رقيق يطلب منه المساعدة على عبور الطريق، ابتسم سامي للطفل، ثم أخذ بيده رامقا إياه بعين متفحصة متسائلة:" لم أكن مغمض العينين حتى يطلب مني فتحهما، متى كان الخيال يحاكي الحقيقة؟ وما خطب الطفولة تساورني لحظات الشدة؟ أفي البراءة ياترى سلاحي المفقود؟!"
    انتبه سامي ليد الطفل تنفلت من قبضته، فتوقف بعض الشيء عندما اكتشف أنه قد وصل به إلى بر الأمان، فيما ابتعد الطفل خطوات واستدار قائلا: "اسمي سامي، شكرا على المساعدة، إلى اللقاء".
    تملك سامي اندهاش صرفه إلى الارتكان في حضن المساومة المحرجة لسلطان السؤال:" لم أكن أعرف أن الصدفة أذكى من ولغ العصور، أفي نهم الاحتقان أيضا تُرمز الرسائل؟".






    5- الذكرى في حضن مأتم
    تابع سامي سيره منحني الرأس والقامة، يغمغم في تاج الغرابة الذي رفض هجر رأسه، شد على ربطة عنقه يفتحها نحو الأسفل، وأخرج منديلا أحمرا من جيبه يمسح العرق من جبينه، وما إن وقعت عيناه على لون المنديل حتى رفع رأسه نحو السماء يخاطبها في صمت تأوهي، والتصقت رموشه تسترسل دمعا متقطعا على خده المشتعل بالحمرة:" ما سر هذه الرسائل المتعاقبة؟ لماذا هذه السطوة الحانقة الآن؟ وما بال هذا المنديل يظهر فجأة هذا اليوم بالضبط؟ فكثيرا ما تحاشيت حمله".
    انغرست أسنانه تقضم المنديل حسرة على الشوق المتصدع بفؤاده، إنها شقوة الحب كالإثمد تخفي ضجة اللواع بين السواد والحمرة، وحازته في قرارة نفسه عبرة اختزلت أشواط الغُلواء صحبة الحبيبة بثينة. لقد كانت صاحبة المنديل، أهدته إياه في مثل هذا اليوم السنة الماضية، كان حينها في ربيعه الثلاثين، كان منهمكا في تذييل بحثه الميداني بملاحظاته الخاصة في مكتبه بمقر الجريدة عندما باغتته بقوامها النياف، وصوتها البحري الدافئ:" من سواه حر يضع عقيدة وراء عقله، ويطلق عقله من أسد إرادته، يفكر ليختار الذي يريد، ولا يريد ليفرض على عقله كيف يفكر، صاحب بيداغوجيا أنبل عاطفة". أسفر وجهه، وتهادى نحوها يتغيا الفجر السني المرقوم على سمتها:" ومن غيرها شف لها القلب شوقا، وسامرت الروح طيفها، وتبدد العدم لسؤلها، وأقبلت الفصول إكليل ورد في سعيها...".
    أخرجت بثينة علبة مربعة الشكل، ملفوفة بورق أحمر براق، وقبل أن تنبس بكلمة، خطف منها سامي الحديث:" آه منك أيها اللون الأحمر، لون المفاجآت، ترى ماذا تخفي هذه المرة؟"، وضعت بثينة العلبة على الطاولة، وسحبت من جيب قميصها منديلا أحمرا، واسترسلت بابتسامتها المشرقة قائلة:
    "-المهم أن تعتني بهذا المنديل، لقد طرزت على كلتي واجهته أول حرف من اسمينا، عيد ميلاد سعيد، وكل عام وأنت حبيبي.
    -و كل عام وأنت قرة عيني، يا أرق روح سكنت روحي، أحبك وسأظل أحبك إلى آخر رمق في حياتي.
    -عدني بذلك!
    -أعدك، إن غفت العين فلن يرضى القلب بونيس سواك˝.
    شد على يديها بقوة أفصحت عن صدق مكنونه، وأخذ المنديل برفق من يديها، فيما ارتحلت العيون وقادت معها الروحين إلى عالم لا عهد فيه بالوداع والفراق، ثم احتضنها وضمها إليه يتنفس من هواء زفيرها، وقد اكتنفته فوضى شاعرية بين التسليم واللاتسليم. خلصت به المقارعة إلى أن يكظم في نفسه سؤالا كان ولا يزال محيرا:" أو أعني لك مثل ماتعنين لي؟ لقد تعلقت بك كثيرات،فلا مفر من صاعقة الحب إلا بصاعقة تضاهيها قوة، لن تكون غيرها، الموت، بل حتى الموت سيكون صاخبا باسمك".
    وجد سامي نفسه طريح مشاكسة الاسترقاق الذي فرضته عليه الأيام الخوالي، وجسه في الضمير خداع الزمن وختل الأحلام، فترنمت بأحداقه دموع سكنت لها الروح، وسار في شرود يجنح بالذكرى بين معاقرة الألم ومهادنته، ورصنت بمعقل التنهدات صورتها المدعومة بإطار النحيب الأبكم، وأهمته مصاوغة راقصة للكلمات:
    " ليس لي بعدك في الورى وصل، لا، وليس لي بعدك نهار ولا ليل، ذاك البين السائب المختل استوحشني، والدرب أعجاز، ظلمة، تململ...، مالي والزمان كظائمه سيْل، تتمارى في القلب صولا، وعلى الأحشاء تجوالا، أخال النيران أخمدها الدمع، والناظر في الجنان لا كناظره مقل، سلوا التحسر، سلوا الجنون، سلوا السؤل، عذب زلال كيف صار مرا. زائف الوعد كابن السرى، يختلس بي الليل حط المنجل، والمناجاة سلوى النفس في سمر الهوى، ويكأن الاعتبار منية الزلل، يتهادى بالجفن تذلل، والخذلان نكاية الأطلال".
    واستفاض ينكأ الجروح:" بثينة، يا حبيبتي، يا شلوا من فؤادي، يا بيضاء الكفين، سليلة متون اللؤلؤ، خذي قليلا من سوادي! هات خصلة من شعرك، تدلهم على وقعها خطا أنفاسي!مللت البياض، وتحجب عني دروب غيرك، يا شمسا لا تغيب، يا بذرة زرعتها بجوفي بكل أناقة، بشتائل مناي وأحلامي. صرت جنة، أغار عليها من الصمت إذ يذوي، فما بالك بالشرخ؟ قبلة من ناظريك يفيء لها عطش صبحي، ويرتوي من مقلتيك سهاد ليلي، يا سراج ظلامي، يا قبلة ما استوفيت بعد فيك تنهدي، ولا ماتت بين ذراعيك عبراتي، أنا من مات وقد فظت المنية جسدي عقدا تناثرت على طول مسيرك، و رياحينا زفتك كالعروس نجما بسمائي، أنا من مات، وما أحلى الموت كالطيف بين سرابيل الأيام!
    فماذا تحكي المسافات بعد هذا الغياب؟ كيف صرت؟ كيف أغدو؟ فلا زالت تحكي المسافات. تاه الزمان وأظل الخطى، والحكي استنفذ المدى. أفاكة أيتها المسافات. لطالما أتقنت في لغط الهوى انتظاري، منك تاهت عني، منك أغرقها الإفك، وأجلب عليها الصمت شرودي، منك ضاعت مني واستوقدت بدل الجفن عيوني، طالني الاحتراق، وطالها العشق بركان ضيق فصادقت نسياني، وتتلمذ الحنق على كيد التراه، جنح ليلها إلى غير ليلي وجُبل اقتباري. فلكم من نفس حائرة صادها الخبث، إلا نفسي، رغم الحيرة اتقذت سعلى بشتائل الأجراس ورحائق العرس. أفاكة أيتها المسافات، بلغ شذوذك عزف الزمان، فيه خان صوت الفجر ليلي، وانتعلت برادة أفكاري دماثة الأسر. أفاكة أيتها المسافات.
    ولكم من نفس ساقها العنث إلى الروض الموحشة، ورابطت على دمنتها أساور النسيان، من ذاك الحبيب، كان كل الدنا، وأسعد على القلب من برد الغنى. إليك حبيبتي هذا العجم على كتفي يختل صاخبا، وملايين القيان افترشت الدمع على أحداقي.دهماء الناس، فتلفظوا وأعيدوا إلي حبيبتي! وتبينوا ألا تعودوا فتُخاط جراح على جراحي. دهماء الناس، يا من استعملوا الأطيار لغير شذوها. تموج في ضباب تلعق الموت، أنا ما اعتدلت، ولا شقيت فعدلت، تلك شقوة الحب كالظل تلاحقني".
    ساقته خطواته المتثاقلة في هدوء يملي بالخنوع والانصياع إلى المقهى المجاور للجريدة، عله يجد السلوى في الانتشاء. وقع بكامل ثقله على الكرسي يصبر قلبا فاترا كليلا، وضع رأسه على الطاولة، وهفا الفؤاد يرنو الاحتساء من واحة الأحرار، ناورته وضعاء في حلة جديدة، ونضح اللسان بعراك خافت يداري الانهزام:" لن يختلف اثنان اعتلجا وسكنا قارات أنفاسي، على أنني هذا الشخص البالغ ربيعه الواحد والثلاثين، والماثل أمام محكمة نفسي، والعابث بالساحية العارجة بالماضي، لم تسبق أن حركت نسمة ضعف ثبات حجاه، ولا سداد بغياه، فسابقة من نوعها هذا الانحناء الذي ليس بالهين، انحناء حقيقي في جوهره، مهتر بسيط في شكله، ذلك أنه افتقر لأدنى سمة من سمات البروتوكول الوضعي، بيد أنه شيد ولأول مرة بروتوكولا ميتافريقيا ساذج الكنه والمفاد، تجلى لوحة تراجيدية إطارها أديم من نحيب وصراخ، حمى تواترت أهازيج رعشاتها على الجبين، أبت أن يجار عليها، وتسلب حق التمتع بالاعتلاج ولو برهة في حض من كان بالأمس موجودا، هستيريا قلبت الموازين، وانتشلت من الأحداق لكآة الترميش المنذر بموعد العزف على أوتار الظلمة والنور، وإنشاد موال الأسود والأبيض، لترسو شهد الأنفاس على مرارة أعقبت دمع العين الأبي دموع ضعف، خارت على وقع حبوها على الجفان ضراوة التحدي، ليخفت وميض الصراع من أجل الذات، وتُطبق على نبضات القلب هواجس اللامرغوب فيه".


    6- السعادة تُعد بالثواني
    رفع رأسه مغمض العينين، محركا رأسه يمينا وشمالا في مناداة موثوقة بالسماء، وغص في الأحزان كبناء قائم تقوض ركائزه من سؤال لآخر:
    " اللعنة، ما معنى أن أخرج من سجن لآخر؟ من ضياع محموم بالشوق إلى ضياع محموم بمحاولة النسيان؟ وكيف يمكنني أن أنسى؟ النسيان يوافق فقدان الذاكرة فقط، لا التناسي يمكن أن تجوب به بر الأمان، ولا حتى التراضي بعد كبوة الفراق. ماذا عن خنق الذاكرة؟ لن يكون أسوأ من الانتحار، وماذا عن الجنون؟ قد أبدو غريبا عن الآخرين، لكنني سأعيش تافها. الجحيم هو الآخر، لكنك لستِ جحيما، أنا من صار جحيما بعد اختفائك، جحيم للنفس قبل الغير".
    فتح عينيه و زايل ظلمة الأسئلة محدقا في من حوله بنظرة مريبة:
    " ماهذه المخلوقات الهاربة من نفسها؟ وما هذه الوجوه العابسة المنتشرة على طول الأرصفة؟ وما هذا الزحام الشديد! كل شيء متشابه هنا! لكن ما بالهم يحدقون بي؟ أنا لست أشبهكم. أنا أشبه بثينة. لكنها سرقت مني، أحدكم سرقها مني. وأجهش في البكاء بدموع جافة. أخذ ورقة وقلما من محفظته، وغاص في بركان قريحته يكتب:
    " تبكيني دموعا غير الدموع، وتنأى بي تبعا كالصقيع نحو عوالم الأحزان، تبكيني وتقصد إبكائي، ويؤلمني أنها في الخداع جمرة بين النيران، تبكيني ويتحسرون لبكائي، وقد نظروا في التولع سما يقتات من الحنين، و يؤسفني أنها مدرسة البدع في حكم الهوى والتقلب والهذيان، تبكيني صراعا مع الركوع،و تستبد بي آيسا كالصريع في أعماق بركاني، و تقارعني مرة إن كنت سئمتها، ومرة تفاضلني حبها، وتناجيني إن كنت يوما سأتركها، وتستحلفني إن كنت أعرف غيرها وقد ألبست محياها قناع التضرع، وتمزقني بين هارب مترفع، ومتعثر قاطع الرجاء، وتختار لي أسماء تنهال من الضريع، وتجردني من كل ضلوع في عوالم الإنسان، وتريدني إعصارا بدل النسيم، وسحابا يخسف بالألوان، وتباركني خريفا لأوراق الربيع، وسيلا في حال التوهان".
    انتبه لظل ضخم يقترب منه شيئا فشيئا، فاستدار نحوه بوجه وجم. إنه النادل أحمد صاحب القامة الطويلة والبنية القوية، كان مثيرا في كل شيء، في شكله ولباقته وأناقة حديثه...، ماعدا لباسه الذي يشبه الغراب.
    اقترب منه مرحبا:- صباح الخير سيدي، فنجان قهوة كالعادة، أليس كذلك؟
    وقف سامي مشدوها لمشهد فتاة توقف سيارة أجرة، شد على يد النادل بقوة، وأشار ببنانه نحوها: لا أصدق نفسي إنها بثينة!
    ركض خلف السيارة التي كانت قد انطلقت يصرخ بكل ما أُوتي من قوة:
    بثينة...بثينة... أنا هنا يا حبيبتي...
    سقط على ركبتيه بعدما ابتعدت السيارة، وبدأ حجمها يصغر ويصغر إلى أن اختفت. صعب على النادل حال سامي الذي استمرت شفتاه ترجف بحروف اسمها، وذهب وراءه يساعده على الوقوف.
    - هون عليك يا سيدي! إن الأمر لا يستحق كل هذا الانفعال.
    - كيف لا يا أحمد؟! كيف لا؟! إنها بثينة، ألم تعد تذكرها؟
    رفع أحمد رأسه نحو الطابق الأول من مبنى الجريدة حاضنا سامي، فيما كانت أمل ترقب الحدث من أعلى، أشار إليها أحمد بالنزول لمساعدته والوقوف إلى جانب سامي، فهي أكثر شخص يطمئن إليه.
    أقطب سامي جبينه وقد أعقبه ألم سافر:- لماذا ظهرت واختفت بهذه السرعة كرهام الخريف؟
    ظهرت أمل عند باب المبنى، فهرول نحوها يطلب الخلاص من شبح السؤل العقيم: لابد أنها جاءت تسأل عني، لماذا لم تنتظر وصولي؟ ماذا أخبرتك؟ تركت لك عنوانها، أليس كذلك؟
    امتقع لون أمل، وامتلأت عيناها بصبيب أحمر يجرف الروح إلى حزن ملثم بالأسف. حطت يديه ثقيلتان على كتفيها متسائلا: ألم تكن بثينة؟
    حجمت بعضا من يأسها، وباشرته بملامح تؤشر للإيجاب. طوت الصمت عن المكان بصوت حاز الطمأنينة في نفس سامي:
    - بلى، هي بثينة. لقد كانت في عجلة من أمرها، لهذا السبب لم تنتظرك، لكنها تركت لك شيئا عندي. هيا بنا نصعد إلى المكتب!
    أمسكت بيده، واستقلت المصعد داعية الله أن يرأف بحاله، توقف المصعد وفتح الباب، فإذا بالنادل أحمد وجها لوجه يحدق لحالهما المهزوزة وفي يده محفظة سامي:
    - تفضل ياسيدي محفظتك! لقد نسيتها بالمقهى.
    شكرته أمل بدلا عن سامي، وأخذت منه المحفظة، بينما كان سامي الحاضر الغائب، حاضرا بحواس معطلة وجسد مذعن منصاع تحركه أمل كالعجين الطيع، يقف لوقوفها، ويمشي لمشيها، الجسد وحده ما تملك منه اللحظة، والعقل والروح مع الحبيبة بثينة.
    استشرفا المدخل المؤدي للمكتب، وقبل وصولهما بخطوات، صادفا رئيس التحرير يسأل عن سامي، تفاجأ لرؤية الصحافي المشحون بالطاقة والمحموم الفكر يفارق محفظته لأول مرة منذ اعتمد صحافيا رئيسيا بالجريدة. علت محياه بهجة تشي بالاستغراب، اقترب منهما وقد أيقن من نظرات سامي أن أمرا جللا ألم به، استأذن أمل ثم انفرد به: - أريدك لغرض مهم بمكتبي.
    انصرفت أمل إلى مكتبها بعدما ناولت سامي محفظته، و أخذت تترقب هول ما يمكن أن يحدث بعد قليل، دفعها الخوف على سامي والتحسب من أي مكروه يمكن أن يلحقه إلى سحب الظرف من الدرج وفتحه" إنها رسالة!". قرأت فحواها بسرعة تقفز بعينيها من كلمة لأخرى كالبرق الخاطف، وبعد هنيهة قامت من مكانها مشدودة الأعصاب:
    "- مستحيل! إنها مأساة بالفعل!"
    دخل عليها سامي في لهفة غير معهودة:" أمل، عزيزتي، وأخيرا سأصبح اليد اليمنى لرئيس التحرير، نعم لقد رقيت بعد خمس سنوات من النضال والجد والاجتهاد، كم هو جميل أن ترى الحلم يتحقق ويكبر يوما بعد يوم أمام عينيك! مفاجأة أخرى، المقالة التي أخذت مني وقتا طويلا ستصدر غدا، قال بأنها ستحدث ضجة كبيرة". أخفت أمل الرسالة تحت محفظتها، وردت قائلة بصوت مرتجف متقطع، وعينان ذابلتان:" مبارك أخي، يجب أن تواصل، فهذه المهنة لا تعرف التقاعس ولا تؤمن بالمتخاذلين."
    اتجه نحو النافذة مسترسلا في حديثه:
    " أجمل بشرى سأزفها إلى أمي بعد سنوات من التعب والانتظار، وبثينة! ستكون في غاية السعادة، بعد هذا الغياب الطويل، أشعر بروحها تلازمني كالفراشة في كل مكان".
    وقبل أن يتقصى أمر ما تركته بثينة، جلبته نحوها في حديث آخر، لعل الأقدار التي أرسلت رئيس التحرير ترسل غيره ممن يدخل عليه فرحة أعمق أثرا، تسليه ولو قليلا من حزن المأساة القادمة:" أكان هذا كل ما أخبرك؟".
    تطلع نحوها مهزوز الرأس في قوام مستقيم:- لقد بدأ التحدي الحقيقي.
    - كيف ذلك؟
    - موضوع حصل حوله هرج ومرج كثيرين، لكن لا بد أن أنفرد ببصمة جديدة حوله: " تاريخ الشيعة ومصحف فاطمة"، هذا ما كلفني به رئيس التحرير.
    - إنه موضوع مثير! يمكن أن أساعدك.
    رد عليها بخفة دمه المعهودة:- على ماذا؟ على حمل محفظتي؟ لن تكون أثقل من محفظتك المملوءة عن آخرها بالأكل؟
    حرك المحفظة من مكانها، ووقعت عيناه على ورقة تسقط على الأرض، أخذها مندهشا:" إنه خط بثينة!"، صرخت أمل في وجهه آمرة:"لا، لا تقرأها!"
    تحول سامي من مكانه شاخصا بصره في مضمون الرسالة، غير عابئ بمن حوله، فيما وضعت أمل رأسها بين يديها مسلمة بالأمر الواقع.




    7- رسالة بخط اليد
    "حبيبي سامي، أيها الساكن روحي وعقلي وكياني، يا نبض حياتي، وبلسمي عندما تلكأ الجروح والآلام، وعوضي بالرضا عندما تترمل الساعات وتعدم الأيام. أقرؤك السلام من أرض انقطع منها الرجاء إلا من باب السماء، وتفتقت عنها الوسائل إلا من نداء السماء، من أرض هزأ الزمان بأهلها تارة بالوصل وتارة بالهجر، الكل هنا يحمل هم قدومه، فإما البقاء وإما الخلاص، وكلاهما المر المميت في سطوته. وأنا كنت غيرهم، أنعم بمخاللتك التي تسليني عن رزح الأنين، وتغنيني عن سؤال اليقين، لأن يقيني بك يكفيني، وروحك تكفيني، وحبك الذي بلغ العنان يكفيني. مع كل ارتماءة طرف تندى أنفاسي بالحلي المنصوب على شفتيك. ومع استدارة القرص الأحمر للمغيب تضمني إليك، وتهمس في أذني بألا شمس تزايل أريج هوانا، ولا ليل يدلهم سوادا وعتمة بأعيننا، فلنا النور والضياء، ولنا النسيم والعبير، والجنان الخالدات تتربع أفئدتنا. ومع إطلالة القرص الأصفر، وعند كل ظهيرة وعصر تهديني إكليل ورد أحمر وأصفر وأبيض، وعند كل آذان، أرى الجنة بين أحضانك، فأهنأ بالعيد خمس مرات في اليوم.
    سامي، حبيبي، أقرؤك من قلبي الشوق الذي يهصره هصرا، فقد أعود وقد لا أعود، لكني في الحقيقة والوهم موجودة، أتمسح الألم الذي يدغدغ ولا يوجع مادمت موجودا. اشتقت إليك، والله اشتقت إليك، فأنت في الحقيقة أروع مما أنت عليه في الخيال. سامي، أعرف مايجول الآن بخاطرك وخلدك، وتلك الأسئلة التي تقض مضجعك منذ إحدى عشر شهرا ونيف، أقسم أنني ما اختفيت خلالها إلا لأنني أحبك، مكرهة والله على الغياب والبعاد، إنها الحقيقة التي تلغي الرطوبة عن الكون. خيروني بين العذابين، فاخترت الموت البطيء بعيدا عن أنظارك. إنها شقوة الحب. والمنطق يسخر مني في كل حين، ويتمسك بتلابيبي، فأتملص منه باسم الوله الذي لا ينتهي. قد أشك في أن حبك لي قد تناثر حبات يصعب لمها، وسيصعب لمها بالفعل إن رأيت صورتي حديثا، لقد تغير شكلي، هزلت وتبدد لون جلدي، وتساقط شعر رأسي، إنه المرض الخبيث، نال من كل جسدي، واخترق أغوار نفسي، لكنه وجد في الحب الذي جمع بيننا أكثر من حولين النار التي لا تنهمد، والجدار الصلب الذي لا يخترق، فعزمت وعزم الحب على أن نبقى سوية إلى هاته اللحظة بالذات. كنت طيلة هذه المدة طريحة الفراش بالمستشفى، ألحت مصاريف العلاج المكلفة على والدي بيع المنزل، فغيرنا مكان السكنى، لكن الجميع كان محتفظا بأمل الشفاء في قرارة نفسه، إلى أن بلغت بي الحال هذه الدرجة، فما عاد ينفع معي دواء ولا علاج. نصحني الأطباء بإجراء عملية لاستئصال الورم. صادفت مرضى كثيرين

      الوقت/التاريخ الآن هو 19/5/2024, 21:21