7- رسالة بخط اليد
"حبيبي سامي، أيها الساكن روحي وعقلي وكياني، يا نبض حياتي، وبلسمي عندما تلكأ الجروح والآلام، وعوضي بالرضا عندما تترمل الساعات وتعدم الأيام. أقرؤك السلام من أرض انقطع منها الرجاء إلا من باب السماء، وتفتقت عنها الوسائل إلا من نداء السماء، من أرض هزأ الزمان بأهلها تارة بالوصل وتارة بالهجر، الكل هنا يحمل هم قدومه، فإما البقاء وإما الخلاص، وكلاهما المر المميت في سطوته. وأنا كنت غيرهم، أنعم بمخاللتك التي تسليني عن رزح الأنين، وتغنيني عن سؤال اليقين، لأن يقيني بك يكفيني، وروحك تكفيني، وحبك الذي بلغ العنان يكفيني. مع كل ارتماءة طرف تندى أنفاسي بالحلي المنصوب على شفتيك. ومع استدارة القرص الأحمر للمغيب تضمني إليك، وتهمس في أذني بألا شمس تزايل أريج هوانا، ولا ليل يدلهم سوادا وعتمة بأعيننا، فلنا النور والضياء، ولنا النسيم والعبير، والجنان الخالدات تتربع أفئدتنا. ومع إطلالة القرص الأصفر، وعند كل ظهيرة وعصر تهديني إكليل ورد أحمر وأصفر وأبيض، وعند كل آذان، أرى الجنة بين أحضانك، فأهنأ بالعيد خمس مرات في اليوم.
سامي، حبيبي، أقرؤك من قلبي الشوق الذي يهصره هصرا، فقد أعود وقد لا أعود، لكني في الحقيقة والوهم موجودة، أتمسح الألم الذي يدغدغ ولا يوجع مادمت موجودا. اشتقت إليك، والله اشتقت إليك، فأنت في الحقيقة أروع مما أنت عليه في الخيال. سامي، أعرف مايجول الآن بخاطرك وخلدك، وتلك الأسئلة التي تقض مضجعك منذ إحدى عشر شهرا ونيف، أقسم أنني ما اختفيت خلالها إلا لأنني أحبك، مكرهة والله على الغياب والبعاد، إنها الحقيقة التي تلغي الرطوبة عن الكون. خيروني بين العذابين، فاخترت الموت البطيء بعيدا عن أنظارك. إنها شقوة الحب. والمنطق يسخر مني في كل حين، ويتمسك بتلابيبي، فأتملص منه باسم الوله الذي لا ينتهي. قد أشك في أن حبك لي قد تناثر حبات يصعب لمها، وسيصعب لمها بالفعل إن رأيت صورتي حديثا، لقد تغير شكلي، هزلت وتبدد لون جلدي، وتساقط شعر رأسي، إنه المرض الخبيث، نال من كل جسدي، واخترق أغوار نفسي، لكنه وجد في الحب الذي جمع بيننا أكثر من حولين النار التي لا تنهمد، والجدار الصلب الذي لا يخترق، فعزمت وعزم الحب على أن نبقى سوية إلى هاته اللحظة بالذات. كنت طيلة هذه المدة طريحة الفراش بالمستشفى، ألحت مصاريف العلاج المكلفة على والدي بيع المنزل، فغيرنا مكان السكنى، لكن الجميع كان محتفظا بأمل الشفاء في قرارة نفسه، إلى أن بلغت بي الحال هذه الدرجة، فما عاد ينفع معي دواء ولا علاج. نصحني الأطباء بإجراء عملية لاستئصال الورم. صادفت مرضى كثيرين غادروني تباعا، وتألمت لفراقهم،والبارحة بثت في نفسي إرهاصات اللحاق بهم، فقد يحين دوري عاجلا،و أبيت إلا أن أكاشفك الحقيقة بنفسي فأرتاح. وشاءت الأقدار أن يصادف يوم إجراء العملية عيد ميلادك. يا لها من دنيا غريبة!
عيد ميلاد سعيد، وكل عام وأنت حبيبي، ستجد رفقة هذه الرسالة منديلا أبيضا، أعرف أنك تحب اللون الأبيض، وأنا كذلك لأني أحبك. عدني ثانية أن تعتني به. عندما ستنتهي من قراءة هذه الرسالة سأكون موجودة إما في الحقيقة وإما في الوهم، ستجدني مرابطة أناشد الحقيقة التي أؤمن أنها تجمع بين العالمين، حقيقة الحب، سأشتاق إليك وسأتوق إلى لمسك، لن أبرح مكاني، سأرقبك من فوق، لن أحلم بعد الآن إلى أن تلحق بي فنحلم سوية، أحبك".
8- انتصار المصير الواحد
تحولت عيناه عن الورقة باتجاه أمل التي اقتربت منهُ متأسفة تملؤها الخيبة، شد على ذراعيها بكل قوته يجهش ببكاء صارخ:" مستحيل أن تتركني! فما صدقت أن كانت هنا جسدا وروحا يتنفسان الحياة، سترحل بعيدا حيث لن أكون فتبحث عني، ولا حيث يمكن أن أبحث عنها". تمالك نفسه، وتوقف عن البكاء برهة، ثم سحب يديه عن أمل. وفجأة صرخ مندفعا نحو الباب:" سألحق بها قبل أن تغادرني". حاولت أمل أن توقفه بأي وسيلة، وعندما تأكدت من فشل إدراكه، سلطت وراءه صوتا كالصاعقة: "سامي عد! أتوسل إليك، عد! محاولتك لن تجدي نفعا، حالتها ميئوس منها". كانت تعلم أن باحة الأمل في إنقاذ بثينة ضيقة لأبعد حد، وسامي بمفرده أمام هذا المصاب لن يكون بخير، لن يستطيع استيعاب ما يحدث، بل قد تدفعه الحقيقة المشهودة بأم العين إلى محاولة فتح الأبواب المغلقة بمفاتيح لا يمكن أن يجدها إلا مع بثينة. تناولت معطفها وحاولت اللحاق به. كان سامي قد استقل سيارة الأجرة باتجاه مستشفى المدينة.
داخل السيارة، أهدرت عيناه المنهكة دموعا متجمدة كالمطر العالق بالمظلة بعد عاصفة هوجاء، كان يلقي نظرات هنا وهناك، كل نظرة تتقعقع ضجرا و شرزا من مكر الأقدار، تبطش في برودة مطلقة بكل تلك الهياكل العظيمة، وراودته النفس ساخرة من تلك الحموضة المستولية على أطراف أفكاره:
" ما أروعك يا زمن! وما أروعني وأنا متربع عرش أوهامك، وقد اشتد هيامي لعلقم لحظاتك، وطفح حنيني العذب لأنين عبراتك، وأنا أتفنن غرقا مقيد الأيدي والأرجل، أتنفس نسيم سبات غزا بساطا أخضرا، حولني فيه من حي حاضر إلى موجود غائب، تحت نغمات موسيقى راقصت بكل إخلاص ذكرى ماض وضع وصلا وسط نعش الحال والمحال. ما أعدلك يازمن! شقاء العزيز المنصف عنوانك، غير ما مرة تناديه مبتسما تملي له أوتار أنيابك، و تعزف لآهاته سانفونية من إبداع ضيمك الضاري. لا الليل أغدق منك سرمدا، ولا النار أسخى منك خُبالا.
آه يا زمن! فنك خبث، وصراطك إبر خاطت أحداقي المنتعلة برحيق الحنين إلى نجم حلُك منذ سنين، فيما مضى استغربت وأنت صاعد منصة العظماء تستلم مشعل الموت البطيء، بيد أني اليوم سأتقدم خطوات إلى الأمام وكلي قناعة لأنحني سخطا على استحقاقك نيل خانق البراءة من درجة سفاح. هذه المرة ستصعد دون أن أنزعج ربوة رياض الأحلام متبخترا، ترعى مواليدها بناي الحرمان، توهمها فتقوقعها بحفر القدر المقدر، لتركع محتضرة، منتظرة سلم التواري والنسيان. ما أعذب خرير ساعاتك يازمن! شلالات هي دموع معجبيك، تروي بامتعاض رياضا أُقبرت بها نظرات محتشمة بإزار الازدراء".
توقفت السيارة عند الإشارة الضوئية الحمراء، منعطف واحد فقط يفصل سامي عن المستشفى. تنبه للزمن يتغير من حوله، عداد السيارة يتوقف، الشمس في تقتير تلوح بأشعتها ومضات ومضات...، الفتاة بائعة الورد والياسمين ترقص بين السيارات كاشفة عن ساقيها، تلوح بآخر وردة، الأرصفة خالية من المتسولين... لا مجال للضوضاء والجشع، الهياكل العظمية أصبحت مكسوة باللحم، البهجة تعلو الوجوه، النافورة تصدر ماء متطايرا، والطيور المهاجرة حطت على الأسوار. تستمر الأرض في الدوران ، وتستقبل السماء الحياة في حلة جديدة، أفسدت هبات النسيم الحموضة المتبقية. تجمع الناس بعدما كانوا فرقاء. لقد تعلم الإنسان كيف ينعم بإنسانيته. تناول السائق المتقدم في السن سبحة يتودد الخالق في حباتها، تذكر سامي سبحة أخيه أسعد، فأخرجها من جيبه صحبة المنديل الأحمر، تفاجأ لأمرها:" ماعادت تعكس غير اللون الأحمر! أين هي بقية الألوان؟!" انطلق السائق بسيارته عند اشتعال الضوء الأخضر، وعلى حين غرة، انعطفت سيارة إسعاف، واستدار سامي بكامل جسده يتابع مسيرها في حالة ذعر، وعند مفترق الطرق اختفت السيارة وظهرت بثينة إلى جانبه باسمة متوشحة البياض، وضعت كفيها على اليد الممسكة بالسبحة والمنديل مرددة:" هذا العالم من غير شخصية، لن أتركك وحيدا، فكمال الشيء في تمام النقصان". اختفت بثينة، وتلون الخارج بضياء متماسك امتصته حبات السبحة، وكان سامي قد بلغه اليقين بالخروج عن حيز المسار، فتح باب السيارة، وانصاع للنداء يرتمي في حضن العالم المغمور بالأحلام والشخصية.
9- عند مفترق الطرق
الضوضاء تعود من جديد، والضجة تلبس سكون المكان، السحب تنفلت من ثقل الاستغراب، والأجساد تنسلخ عن جلدها وتتنصل من عقدة الإنسان، والحشد يتهيأ للهرب والفرار. بائعة الورد تتقدم نحوه، وتضع على صدره آخر وردة. توفي في ظروف غامضة، نهم الاستفهام في ألف لون ولون.
تتحرك أرقام العداد وتهاجر الطيور الأسوار، لكن أبواب السماء لازالت مفتوحة، وأوراق الأشجار تتساقط تباعا، من قد يحين عليه الدور؟ الجثمان يتحرك والناس في وجوم، الشمس في المنتصف، والنخيل الباسقة هامدة في مكانها. يلقي السائق نظرة، تنزل أمل من سيارة الأجرة، وتقترب غير مصدقة:" كأنه سامي!... بل هو سامي!" تستغرق في ذهول صامت:" ذهب في طلب المفاتيح، ذهب في طلب الحب، وفارق الحياة من غير عود، كم هو جميل ! في كل شيء جميل، حتى في موته."
يرفع الجثمان داخل سيارة الإسعاف، وتقترب أكثر لتلقي نظرة المودع، فيُغشى عليها...
هي منازلة الموت بالموت، وانتصار من أجل حياة لا تتعدى حدود العقل، لكنها ثابتة بالذكرى والتاريخ.
يرفع الآذان، وترتفع الحقيقة طاهرة مع الروح، وتُحبك الأسطورة في حضن الرذيلة.
10-بعد سنة
الساعة تشير إلى السابعة صباحا، حسام يستيقظ من نومه، ويجد أسعد كالعادة مستلقيا إلى جانبه يغط في نوم عميق، نفس الرائحة النتنة تفوح منه، ونفس الملابس الرثة لا زال يرتديها، كل شيء تغير، أصبح مدمنا على الكحول والسهر بعدما كان مدمنا على الصلاة والذكر. الخطوات التي كانت تقله نحو المسجد، انحرفت وضلت طريقها نحو الحانة. يفتح حسام النافذة، وينظر نحو الأفق متسائلا:
" أترى تحتفل بعيد ميلادك أم بعيد وفاتك؟ أعتذر يا أخي، لكنك تفهم قصدي، هنا نصطلح عليها وفاة، وهناك حيث ترانا ولا نراك، حياة جديدة، فأنت مولود جديد، تطفئ شمعتك الأولى. ماذا أهدت لك بثينة؟ أفي ذلك العالم هدايا؟ أفي ذلك العالم فصول وشمس وأفلاك ونجوم؟ هل نسيتنا أم أنك لا زلت على العهد تذكرنا؟ ساءت أحوالنا بعدك يا سامي، فعل السكري فعلته بأبي وفقد بصره، وأمي المسكينة ماتنفك توحي لها أبسط الأشياء برحيلك حتى تتخبط في هستيريا مفزعة، وحال أسعد يكلم الفؤاد، يعاقر الكؤوس ليلا، ويستسلم للنوم نهارا، هجر الكلام وهجر الدنيا وهجر العالم، يبحث عن ونيس ينسي ولا يذكر، لكنه مازال طيب القلب. وأنا يا سامي لم أعد ذلك الأنا، في هذه السن المبكرة، أنا راشد في صورة قزم، أحضر حاجة أمي من أغراض المنزل، وأساعدها كذلك في المطبخ. يوم الجمعة أمسك بيد أبي ونخرج للصلاة، كثيرا ما يردد اسمك في دعائه. أحاول أن أعيد البهجة إلى المنزل بعدما أصابتها الوحشة و كالبها الفتور. لكن أكثر ما يؤلمني، بكاء أمي ونحيبها كلما أخذتني بين أحضانها تتأملني، كنت أعرف السبب وإن كتمته في نفسها، فأنا صورة طبق الأصل عنك. في دراستي أنا متفوق وأستاذي مهتم بذلك. في حصص الإنشاء كثيرا ما كانت تذهب نفسه حسرات على كتاباتك، وفي كثير من الأحايين يجد حسها يتكرر في أسلوبي، كان شغوفا بمقالاتك، لكنه كان يجهل أنك أخي. لا أملك أصدقاء داخل الفصل، يجدونني مختلفا، أقبع في صمت جنوني، لا أجد بدا في الحديث ولا في اللعب. تجلس إلى جانبي فتاة جميلة اسمها سارة، يتيمة الأب من غير معيل، أشعر بقلبها ينبض في جوفي، وكأنها الآلام جمعتنا، ومن يدري لعل التاريخ يعيد نفسه."
بعيدا عن المنزل، بمقر الجريدة، رئيس التحرير يعقد اجتماعا، الغائب سامي وأمل، أصبحا من الأرشيف، تراجعت المبيعات بشكل ملحوظ، مرشحون جدد على الطاولة، رئيس التحرير يتحدث:
"في مثل هذا اليوم السنة الماضية، وفي مثل هذا اليوم السنوات القادمة، سيظل هذا الرقم بيننا. بعد هذه السنة كل شيء سيتغير ماعدا هذا الرقم، سنضطر للتخلي عن خدمات أمل إلى حين، فنوبات الصرع لازالت تلازمها. سيتغير توجه الجريدة، النقاش مفتوح، اقترحوا اسما جديدا، فما عاد يناسبنا الاسم القديم".
هبت نسمة خريفية خفيفة تساقطت على وقعها أوراق خضراء ذاهبة إلى الصفرة، نحن في أولى أيام الخريف، حتى الأشجار تتجرد من نفسها، لكنها هل تأسف على حالها؟ الأكيد أنها ضاقت من مكانها، فجميع الهياكل تتحرك سواها، لكن الرحمة لم تنساها، فهي تسافر كالآخرين عير الزمن، وكالآخرين تغير قناعها، وتتغير في حلتها، المهم الثمار التي تتساقط منها، كما تتساقط الأوراق، وتتساقط الأمطار، ويتساقط الناس تباعا.
السماء الملبدة، والرائحة الصادرة من الأرض تنذران بفصل شتاء ممطر، على أنه لن يدوم طويلا. لا شيء يستدعي القلق، كل شيء ممكن، والبقاء على قيد الحياة أيضا ممكن. وبالجانب الآخر، بالضفة الأخرى، على الواجهة مباشرة، تلح الحقيقة على الاستمرار، وتحف بها الأسطورة من كل صوب...
11- حسنا!
سأهمس بالحقيقة من بعيد. كأي حقيقة يجب أن يسمع صداها فقط. حتى لا تصل على النحو الذي صدرت عليه. ترقبوها تزهر كالفجر السني فاتحة ذراعيها للشمس، بين الكثبان و الفجاج، خلف الجبال و على رأس القمة حيث ينتهي بك الطرف. كأنني أنا، كأنني أنت، كأنه نحن، أو كأننا هو...التركيبة التي لا تنتهـي، و تذيل بالأحفاد، لكنها تخال نفسها في الحضيض، و هي على خلاف ذلك على قدر كبير من الشأن و الرفعة.
يطل الحب شاحبا في لون الغروب، بينه و بين الوصل خطوتين، تطارده الشياطين من خلف، و عن يمينه و يساره أنفاس تستجمع من جديد.
العد التنازلي يتوقف، لحظة ترقب، ثم انطلاقة جنونية نحـــو الوراء،و عود شاذ متطرف إلى نفس المكان، نقطة الانطلاق، البداية التي ليست لها نهاية، المسار الإهليجي الذي يشبه كعكة هلالية تتطلع نحو الاكتمال، تطرف في الإرتكاس، تطرف في الشكل، و تطرف عن منطق الكون...
تستبدل الأدوار، و تستجمع الأنفاس من جديد، الحب هازئ يطل في لون الشروق، يتظاهر بالملك، و يزعم الريادة، و الشياطين مهرولة أمامه.
و بين الشروق و الغروب، لعبة النزال معلقة، بين دفتي الخير و الشر، و النصر و الهزيمة...، بين الشروق و الغروب، الطارد و المطارد في حكم المؤبد، و المكان و الوقت و الأنفاس في حكم الانتظار، انتظار المصير، و النهاية التي تصبح بداية. هل يمكن الاستغناء عن اللعبة؟ و متى؟
- يجيب صاحب الاسم المستعار:" هي مجرد لعبة كما تقول، لعبة ليس إلا. من غير هوية، من غير اسم، من غير موطن...، من غير شخصية. أشك أنها قد تستهويني، و حتى و إن حدث و تورطت، سأزيغ باللعبة إلى رقعة أخرى...".
- تجيب الفتاة المحجبة:" أؤمن بالمفاجآت، و كثيرا ما أجد بدا في حدوثها، الشروق بعد الغروب لا يعنيني بشيء، بينهما مسيرة مملة، نفس الاسم يتكرر، و هذا ما يثير شقوتي، و يطوق حريتي عند الحدود. عند كـــل شروق و غروب يمكن أن أتعاقد ببنود جديدة".
- يجيب أسعد باختصار شديد: " خدعة، السؤال نفسه خدعة، الزيف يتوشح ضياء القمر..."
- الأب و الأم في صوت واحد: " ندرك أنها ليست لعبة، و حشاها ذلك، يكفيك أن تقول أنها سلطنة الأقفال على المفاتيح، فهذا شروق و ذلك غروب، و هذه بداية و تلك نهاية، و الوئام في المنتصف عندما يحضر الاكتمال".
- حسام يبدي رأيه: " ما أعلمه أن سارة اسم حقيقي، و ما أجهله قبلة مجيئها؟ شروق أم غروب؟ ليست بعد مهيئا لإدراك المكان. أن تستدرجني نحو البداية أمر طبيعي، لكنها الخطوة الأولى ما يهم دائما، إلى أين؟ سأحتفظ بالجواب إلى حين..."
- بائعة الورد تندب حظها:" متى سأتوقف عن إهداء الوردة الأخيرة؟
كم أود أن تهدى إلي ذات يوم، فلا أكشف عن ساقي، و لا أرقص إلا لحبيبي..."
- النادل أحمد تستعصي عليه الإجابة، و يتناوش بخلده حرب الاستغراب، ينصرف إلى جلب و طلب أمر جديد، هاته اللعبة الوحيدة التي يستصيغها، يشير من بعيد محركا كفيه: " اسألوا أمل!"
- ترتد أمل بطرفها نحو الخلف، نحو المدار، نقطة الالتقاء، نهاية المفترق و بدايته: " ظل الجواب موجود هناك، ظل الحقيقة التي في السماء،
الأرض ظل للسماء، و هذه اللعبة شبيهة بالجحيم، ألا تسمع صراخهم؟ إنهم تحت، تحت، مصفدون بقيد التراب، و معلقون من تحت إلى تحت، و الشياطين تحلق فوقهم، بإمكانهم الخلاص، بإمكانهم التحرر، ينقصهم إيمان سامي و إخلاص بثينة، و أنا وحدي الشاهد على اللعبة إلى حين..."
- سامي و بثينة في دعوة جديدة: " اتركوا الأعنة لأخيلتكم!..."
"حبيبي سامي، أيها الساكن روحي وعقلي وكياني، يا نبض حياتي، وبلسمي عندما تلكأ الجروح والآلام، وعوضي بالرضا عندما تترمل الساعات وتعدم الأيام. أقرؤك السلام من أرض انقطع منها الرجاء إلا من باب السماء، وتفتقت عنها الوسائل إلا من نداء السماء، من أرض هزأ الزمان بأهلها تارة بالوصل وتارة بالهجر، الكل هنا يحمل هم قدومه، فإما البقاء وإما الخلاص، وكلاهما المر المميت في سطوته. وأنا كنت غيرهم، أنعم بمخاللتك التي تسليني عن رزح الأنين، وتغنيني عن سؤال اليقين، لأن يقيني بك يكفيني، وروحك تكفيني، وحبك الذي بلغ العنان يكفيني. مع كل ارتماءة طرف تندى أنفاسي بالحلي المنصوب على شفتيك. ومع استدارة القرص الأحمر للمغيب تضمني إليك، وتهمس في أذني بألا شمس تزايل أريج هوانا، ولا ليل يدلهم سوادا وعتمة بأعيننا، فلنا النور والضياء، ولنا النسيم والعبير، والجنان الخالدات تتربع أفئدتنا. ومع إطلالة القرص الأصفر، وعند كل ظهيرة وعصر تهديني إكليل ورد أحمر وأصفر وأبيض، وعند كل آذان، أرى الجنة بين أحضانك، فأهنأ بالعيد خمس مرات في اليوم.
سامي، حبيبي، أقرؤك من قلبي الشوق الذي يهصره هصرا، فقد أعود وقد لا أعود، لكني في الحقيقة والوهم موجودة، أتمسح الألم الذي يدغدغ ولا يوجع مادمت موجودا. اشتقت إليك، والله اشتقت إليك، فأنت في الحقيقة أروع مما أنت عليه في الخيال. سامي، أعرف مايجول الآن بخاطرك وخلدك، وتلك الأسئلة التي تقض مضجعك منذ إحدى عشر شهرا ونيف، أقسم أنني ما اختفيت خلالها إلا لأنني أحبك، مكرهة والله على الغياب والبعاد، إنها الحقيقة التي تلغي الرطوبة عن الكون. خيروني بين العذابين، فاخترت الموت البطيء بعيدا عن أنظارك. إنها شقوة الحب. والمنطق يسخر مني في كل حين، ويتمسك بتلابيبي، فأتملص منه باسم الوله الذي لا ينتهي. قد أشك في أن حبك لي قد تناثر حبات يصعب لمها، وسيصعب لمها بالفعل إن رأيت صورتي حديثا، لقد تغير شكلي، هزلت وتبدد لون جلدي، وتساقط شعر رأسي، إنه المرض الخبيث، نال من كل جسدي، واخترق أغوار نفسي، لكنه وجد في الحب الذي جمع بيننا أكثر من حولين النار التي لا تنهمد، والجدار الصلب الذي لا يخترق، فعزمت وعزم الحب على أن نبقى سوية إلى هاته اللحظة بالذات. كنت طيلة هذه المدة طريحة الفراش بالمستشفى، ألحت مصاريف العلاج المكلفة على والدي بيع المنزل، فغيرنا مكان السكنى، لكن الجميع كان محتفظا بأمل الشفاء في قرارة نفسه، إلى أن بلغت بي الحال هذه الدرجة، فما عاد ينفع معي دواء ولا علاج. نصحني الأطباء بإجراء عملية لاستئصال الورم. صادفت مرضى كثيرين غادروني تباعا، وتألمت لفراقهم،والبارحة بثت في نفسي إرهاصات اللحاق بهم، فقد يحين دوري عاجلا،و أبيت إلا أن أكاشفك الحقيقة بنفسي فأرتاح. وشاءت الأقدار أن يصادف يوم إجراء العملية عيد ميلادك. يا لها من دنيا غريبة!
عيد ميلاد سعيد، وكل عام وأنت حبيبي، ستجد رفقة هذه الرسالة منديلا أبيضا، أعرف أنك تحب اللون الأبيض، وأنا كذلك لأني أحبك. عدني ثانية أن تعتني به. عندما ستنتهي من قراءة هذه الرسالة سأكون موجودة إما في الحقيقة وإما في الوهم، ستجدني مرابطة أناشد الحقيقة التي أؤمن أنها تجمع بين العالمين، حقيقة الحب، سأشتاق إليك وسأتوق إلى لمسك، لن أبرح مكاني، سأرقبك من فوق، لن أحلم بعد الآن إلى أن تلحق بي فنحلم سوية، أحبك".
8- انتصار المصير الواحد
تحولت عيناه عن الورقة باتجاه أمل التي اقتربت منهُ متأسفة تملؤها الخيبة، شد على ذراعيها بكل قوته يجهش ببكاء صارخ:" مستحيل أن تتركني! فما صدقت أن كانت هنا جسدا وروحا يتنفسان الحياة، سترحل بعيدا حيث لن أكون فتبحث عني، ولا حيث يمكن أن أبحث عنها". تمالك نفسه، وتوقف عن البكاء برهة، ثم سحب يديه عن أمل. وفجأة صرخ مندفعا نحو الباب:" سألحق بها قبل أن تغادرني". حاولت أمل أن توقفه بأي وسيلة، وعندما تأكدت من فشل إدراكه، سلطت وراءه صوتا كالصاعقة: "سامي عد! أتوسل إليك، عد! محاولتك لن تجدي نفعا، حالتها ميئوس منها". كانت تعلم أن باحة الأمل في إنقاذ بثينة ضيقة لأبعد حد، وسامي بمفرده أمام هذا المصاب لن يكون بخير، لن يستطيع استيعاب ما يحدث، بل قد تدفعه الحقيقة المشهودة بأم العين إلى محاولة فتح الأبواب المغلقة بمفاتيح لا يمكن أن يجدها إلا مع بثينة. تناولت معطفها وحاولت اللحاق به. كان سامي قد استقل سيارة الأجرة باتجاه مستشفى المدينة.
داخل السيارة، أهدرت عيناه المنهكة دموعا متجمدة كالمطر العالق بالمظلة بعد عاصفة هوجاء، كان يلقي نظرات هنا وهناك، كل نظرة تتقعقع ضجرا و شرزا من مكر الأقدار، تبطش في برودة مطلقة بكل تلك الهياكل العظيمة، وراودته النفس ساخرة من تلك الحموضة المستولية على أطراف أفكاره:
" ما أروعك يا زمن! وما أروعني وأنا متربع عرش أوهامك، وقد اشتد هيامي لعلقم لحظاتك، وطفح حنيني العذب لأنين عبراتك، وأنا أتفنن غرقا مقيد الأيدي والأرجل، أتنفس نسيم سبات غزا بساطا أخضرا، حولني فيه من حي حاضر إلى موجود غائب، تحت نغمات موسيقى راقصت بكل إخلاص ذكرى ماض وضع وصلا وسط نعش الحال والمحال. ما أعدلك يازمن! شقاء العزيز المنصف عنوانك، غير ما مرة تناديه مبتسما تملي له أوتار أنيابك، و تعزف لآهاته سانفونية من إبداع ضيمك الضاري. لا الليل أغدق منك سرمدا، ولا النار أسخى منك خُبالا.
آه يا زمن! فنك خبث، وصراطك إبر خاطت أحداقي المنتعلة برحيق الحنين إلى نجم حلُك منذ سنين، فيما مضى استغربت وأنت صاعد منصة العظماء تستلم مشعل الموت البطيء، بيد أني اليوم سأتقدم خطوات إلى الأمام وكلي قناعة لأنحني سخطا على استحقاقك نيل خانق البراءة من درجة سفاح. هذه المرة ستصعد دون أن أنزعج ربوة رياض الأحلام متبخترا، ترعى مواليدها بناي الحرمان، توهمها فتقوقعها بحفر القدر المقدر، لتركع محتضرة، منتظرة سلم التواري والنسيان. ما أعذب خرير ساعاتك يازمن! شلالات هي دموع معجبيك، تروي بامتعاض رياضا أُقبرت بها نظرات محتشمة بإزار الازدراء".
توقفت السيارة عند الإشارة الضوئية الحمراء، منعطف واحد فقط يفصل سامي عن المستشفى. تنبه للزمن يتغير من حوله، عداد السيارة يتوقف، الشمس في تقتير تلوح بأشعتها ومضات ومضات...، الفتاة بائعة الورد والياسمين ترقص بين السيارات كاشفة عن ساقيها، تلوح بآخر وردة، الأرصفة خالية من المتسولين... لا مجال للضوضاء والجشع، الهياكل العظمية أصبحت مكسوة باللحم، البهجة تعلو الوجوه، النافورة تصدر ماء متطايرا، والطيور المهاجرة حطت على الأسوار. تستمر الأرض في الدوران ، وتستقبل السماء الحياة في حلة جديدة، أفسدت هبات النسيم الحموضة المتبقية. تجمع الناس بعدما كانوا فرقاء. لقد تعلم الإنسان كيف ينعم بإنسانيته. تناول السائق المتقدم في السن سبحة يتودد الخالق في حباتها، تذكر سامي سبحة أخيه أسعد، فأخرجها من جيبه صحبة المنديل الأحمر، تفاجأ لأمرها:" ماعادت تعكس غير اللون الأحمر! أين هي بقية الألوان؟!" انطلق السائق بسيارته عند اشتعال الضوء الأخضر، وعلى حين غرة، انعطفت سيارة إسعاف، واستدار سامي بكامل جسده يتابع مسيرها في حالة ذعر، وعند مفترق الطرق اختفت السيارة وظهرت بثينة إلى جانبه باسمة متوشحة البياض، وضعت كفيها على اليد الممسكة بالسبحة والمنديل مرددة:" هذا العالم من غير شخصية، لن أتركك وحيدا، فكمال الشيء في تمام النقصان". اختفت بثينة، وتلون الخارج بضياء متماسك امتصته حبات السبحة، وكان سامي قد بلغه اليقين بالخروج عن حيز المسار، فتح باب السيارة، وانصاع للنداء يرتمي في حضن العالم المغمور بالأحلام والشخصية.
9- عند مفترق الطرق
الضوضاء تعود من جديد، والضجة تلبس سكون المكان، السحب تنفلت من ثقل الاستغراب، والأجساد تنسلخ عن جلدها وتتنصل من عقدة الإنسان، والحشد يتهيأ للهرب والفرار. بائعة الورد تتقدم نحوه، وتضع على صدره آخر وردة. توفي في ظروف غامضة، نهم الاستفهام في ألف لون ولون.
تتحرك أرقام العداد وتهاجر الطيور الأسوار، لكن أبواب السماء لازالت مفتوحة، وأوراق الأشجار تتساقط تباعا، من قد يحين عليه الدور؟ الجثمان يتحرك والناس في وجوم، الشمس في المنتصف، والنخيل الباسقة هامدة في مكانها. يلقي السائق نظرة، تنزل أمل من سيارة الأجرة، وتقترب غير مصدقة:" كأنه سامي!... بل هو سامي!" تستغرق في ذهول صامت:" ذهب في طلب المفاتيح، ذهب في طلب الحب، وفارق الحياة من غير عود، كم هو جميل ! في كل شيء جميل، حتى في موته."
يرفع الجثمان داخل سيارة الإسعاف، وتقترب أكثر لتلقي نظرة المودع، فيُغشى عليها...
هي منازلة الموت بالموت، وانتصار من أجل حياة لا تتعدى حدود العقل، لكنها ثابتة بالذكرى والتاريخ.
يرفع الآذان، وترتفع الحقيقة طاهرة مع الروح، وتُحبك الأسطورة في حضن الرذيلة.
10-بعد سنة
الساعة تشير إلى السابعة صباحا، حسام يستيقظ من نومه، ويجد أسعد كالعادة مستلقيا إلى جانبه يغط في نوم عميق، نفس الرائحة النتنة تفوح منه، ونفس الملابس الرثة لا زال يرتديها، كل شيء تغير، أصبح مدمنا على الكحول والسهر بعدما كان مدمنا على الصلاة والذكر. الخطوات التي كانت تقله نحو المسجد، انحرفت وضلت طريقها نحو الحانة. يفتح حسام النافذة، وينظر نحو الأفق متسائلا:
" أترى تحتفل بعيد ميلادك أم بعيد وفاتك؟ أعتذر يا أخي، لكنك تفهم قصدي، هنا نصطلح عليها وفاة، وهناك حيث ترانا ولا نراك، حياة جديدة، فأنت مولود جديد، تطفئ شمعتك الأولى. ماذا أهدت لك بثينة؟ أفي ذلك العالم هدايا؟ أفي ذلك العالم فصول وشمس وأفلاك ونجوم؟ هل نسيتنا أم أنك لا زلت على العهد تذكرنا؟ ساءت أحوالنا بعدك يا سامي، فعل السكري فعلته بأبي وفقد بصره، وأمي المسكينة ماتنفك توحي لها أبسط الأشياء برحيلك حتى تتخبط في هستيريا مفزعة، وحال أسعد يكلم الفؤاد، يعاقر الكؤوس ليلا، ويستسلم للنوم نهارا، هجر الكلام وهجر الدنيا وهجر العالم، يبحث عن ونيس ينسي ولا يذكر، لكنه مازال طيب القلب. وأنا يا سامي لم أعد ذلك الأنا، في هذه السن المبكرة، أنا راشد في صورة قزم، أحضر حاجة أمي من أغراض المنزل، وأساعدها كذلك في المطبخ. يوم الجمعة أمسك بيد أبي ونخرج للصلاة، كثيرا ما يردد اسمك في دعائه. أحاول أن أعيد البهجة إلى المنزل بعدما أصابتها الوحشة و كالبها الفتور. لكن أكثر ما يؤلمني، بكاء أمي ونحيبها كلما أخذتني بين أحضانها تتأملني، كنت أعرف السبب وإن كتمته في نفسها، فأنا صورة طبق الأصل عنك. في دراستي أنا متفوق وأستاذي مهتم بذلك. في حصص الإنشاء كثيرا ما كانت تذهب نفسه حسرات على كتاباتك، وفي كثير من الأحايين يجد حسها يتكرر في أسلوبي، كان شغوفا بمقالاتك، لكنه كان يجهل أنك أخي. لا أملك أصدقاء داخل الفصل، يجدونني مختلفا، أقبع في صمت جنوني، لا أجد بدا في الحديث ولا في اللعب. تجلس إلى جانبي فتاة جميلة اسمها سارة، يتيمة الأب من غير معيل، أشعر بقلبها ينبض في جوفي، وكأنها الآلام جمعتنا، ومن يدري لعل التاريخ يعيد نفسه."
بعيدا عن المنزل، بمقر الجريدة، رئيس التحرير يعقد اجتماعا، الغائب سامي وأمل، أصبحا من الأرشيف، تراجعت المبيعات بشكل ملحوظ، مرشحون جدد على الطاولة، رئيس التحرير يتحدث:
"في مثل هذا اليوم السنة الماضية، وفي مثل هذا اليوم السنوات القادمة، سيظل هذا الرقم بيننا. بعد هذه السنة كل شيء سيتغير ماعدا هذا الرقم، سنضطر للتخلي عن خدمات أمل إلى حين، فنوبات الصرع لازالت تلازمها. سيتغير توجه الجريدة، النقاش مفتوح، اقترحوا اسما جديدا، فما عاد يناسبنا الاسم القديم".
هبت نسمة خريفية خفيفة تساقطت على وقعها أوراق خضراء ذاهبة إلى الصفرة، نحن في أولى أيام الخريف، حتى الأشجار تتجرد من نفسها، لكنها هل تأسف على حالها؟ الأكيد أنها ضاقت من مكانها، فجميع الهياكل تتحرك سواها، لكن الرحمة لم تنساها، فهي تسافر كالآخرين عير الزمن، وكالآخرين تغير قناعها، وتتغير في حلتها، المهم الثمار التي تتساقط منها، كما تتساقط الأوراق، وتتساقط الأمطار، ويتساقط الناس تباعا.
السماء الملبدة، والرائحة الصادرة من الأرض تنذران بفصل شتاء ممطر، على أنه لن يدوم طويلا. لا شيء يستدعي القلق، كل شيء ممكن، والبقاء على قيد الحياة أيضا ممكن. وبالجانب الآخر، بالضفة الأخرى، على الواجهة مباشرة، تلح الحقيقة على الاستمرار، وتحف بها الأسطورة من كل صوب...
11- حسنا!
سأهمس بالحقيقة من بعيد. كأي حقيقة يجب أن يسمع صداها فقط. حتى لا تصل على النحو الذي صدرت عليه. ترقبوها تزهر كالفجر السني فاتحة ذراعيها للشمس، بين الكثبان و الفجاج، خلف الجبال و على رأس القمة حيث ينتهي بك الطرف. كأنني أنا، كأنني أنت، كأنه نحن، أو كأننا هو...التركيبة التي لا تنتهـي، و تذيل بالأحفاد، لكنها تخال نفسها في الحضيض، و هي على خلاف ذلك على قدر كبير من الشأن و الرفعة.
يطل الحب شاحبا في لون الغروب، بينه و بين الوصل خطوتين، تطارده الشياطين من خلف، و عن يمينه و يساره أنفاس تستجمع من جديد.
العد التنازلي يتوقف، لحظة ترقب، ثم انطلاقة جنونية نحـــو الوراء،و عود شاذ متطرف إلى نفس المكان، نقطة الانطلاق، البداية التي ليست لها نهاية، المسار الإهليجي الذي يشبه كعكة هلالية تتطلع نحو الاكتمال، تطرف في الإرتكاس، تطرف في الشكل، و تطرف عن منطق الكون...
تستبدل الأدوار، و تستجمع الأنفاس من جديد، الحب هازئ يطل في لون الشروق، يتظاهر بالملك، و يزعم الريادة، و الشياطين مهرولة أمامه.
و بين الشروق و الغروب، لعبة النزال معلقة، بين دفتي الخير و الشر، و النصر و الهزيمة...، بين الشروق و الغروب، الطارد و المطارد في حكم المؤبد، و المكان و الوقت و الأنفاس في حكم الانتظار، انتظار المصير، و النهاية التي تصبح بداية. هل يمكن الاستغناء عن اللعبة؟ و متى؟
- يجيب صاحب الاسم المستعار:" هي مجرد لعبة كما تقول، لعبة ليس إلا. من غير هوية، من غير اسم، من غير موطن...، من غير شخصية. أشك أنها قد تستهويني، و حتى و إن حدث و تورطت، سأزيغ باللعبة إلى رقعة أخرى...".
- تجيب الفتاة المحجبة:" أؤمن بالمفاجآت، و كثيرا ما أجد بدا في حدوثها، الشروق بعد الغروب لا يعنيني بشيء، بينهما مسيرة مملة، نفس الاسم يتكرر، و هذا ما يثير شقوتي، و يطوق حريتي عند الحدود. عند كـــل شروق و غروب يمكن أن أتعاقد ببنود جديدة".
- يجيب أسعد باختصار شديد: " خدعة، السؤال نفسه خدعة، الزيف يتوشح ضياء القمر..."
- الأب و الأم في صوت واحد: " ندرك أنها ليست لعبة، و حشاها ذلك، يكفيك أن تقول أنها سلطنة الأقفال على المفاتيح، فهذا شروق و ذلك غروب، و هذه بداية و تلك نهاية، و الوئام في المنتصف عندما يحضر الاكتمال".
- حسام يبدي رأيه: " ما أعلمه أن سارة اسم حقيقي، و ما أجهله قبلة مجيئها؟ شروق أم غروب؟ ليست بعد مهيئا لإدراك المكان. أن تستدرجني نحو البداية أمر طبيعي، لكنها الخطوة الأولى ما يهم دائما، إلى أين؟ سأحتفظ بالجواب إلى حين..."
- بائعة الورد تندب حظها:" متى سأتوقف عن إهداء الوردة الأخيرة؟
كم أود أن تهدى إلي ذات يوم، فلا أكشف عن ساقي، و لا أرقص إلا لحبيبي..."
- النادل أحمد تستعصي عليه الإجابة، و يتناوش بخلده حرب الاستغراب، ينصرف إلى جلب و طلب أمر جديد، هاته اللعبة الوحيدة التي يستصيغها، يشير من بعيد محركا كفيه: " اسألوا أمل!"
- ترتد أمل بطرفها نحو الخلف، نحو المدار، نقطة الالتقاء، نهاية المفترق و بدايته: " ظل الجواب موجود هناك، ظل الحقيقة التي في السماء،
الأرض ظل للسماء، و هذه اللعبة شبيهة بالجحيم، ألا تسمع صراخهم؟ إنهم تحت، تحت، مصفدون بقيد التراب، و معلقون من تحت إلى تحت، و الشياطين تحلق فوقهم، بإمكانهم الخلاص، بإمكانهم التحرر، ينقصهم إيمان سامي و إخلاص بثينة، و أنا وحدي الشاهد على اللعبة إلى حين..."
- سامي و بثينة في دعوة جديدة: " اتركوا الأعنة لأخيلتكم!..."