محمد أزوض: إضاءة في تكوين المربين
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
إن علم النفس وخصوصا علم نفس الطفل لعب دورا مهما في تزويد معارفنا بحقائق تتعلق بنمو الطفل، لكن هذه الأفكار لن تلج المدرسة ما لم يستوعبها المربون ويتم ترجمتها إلى أفعال وإنجازات فريدة ومبدعة. إن التصور التقليدي ما زال حاضرا بقوة رغم التغيرات التي عرفها علم النفس وفن التربية، ويتجلى في النظر إلى المربين على أنهم مجرد مبلغين لمعارف وفي أحسن الأحوال معينين على اكتساب مهارات وقدرات مكبلين بسيل من القرارات الإدارية والالتزامات المهنية مما يقتل فيهم روح الابتكار والإبداع والاكتشاف مما ينتج عنه دونية موقعهم.[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
وبالرغم من الثورات البيداغوجية المهمة التي حدثت وتحدث في التاريخ التربوي وتسارع وثيرة الاكتشافات في حقل الطفولة والمراهقة نجد أن المربين
في منأى عنها، رغم ضرورة التسلح بهذه الأفكار، حيث لا يمتلكون سواء كأساتذة أو مشرفين أو إداريين الكفايات الأساسية لتطوير هذا الحقل العلمي، لأنهم لا يمتلكون إلا شذرات متناثرة هنا وهناك في مبحث علم النفس والتربية، ولا يقومون بأي بحوث نظرية ولا ميدانية تحت تأطير دكاترة متخصصين في هذا العلم، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
وقدم جان بياجي حلا لمعالجة هذا المشكل في كتابه " علم النفس وفن التربية "، نجد ضرورة بسطه لأن ما نعرف عن جان بياجي هو تحليله لمراحل النمو وكيفية اكتساب المعرفة لدى الطفل متناسين منذ أمد بعيد محاولته معالجة مشكل تكوين المربين.
إن تكوين المربين في مؤسسات من مستوى عال، يشكل الهدف الأسمى الذي يجب الاقتراب منه أكثر فأكثر. فلا يمكن أن تتحقق فعالية تكوينهم إلا بالارتباط بأوساط البحث الجامعي، حيث يمكن مشاهدة الباحثين، وهم غائصون في أبحاثهم وتجاربهم، فلا يمكن تعلم سيكولوجيا الطفل حقا إلا بالمساهمة في أبحاث جديدة والمشاركة في فن التربية الاختباري، فالمدرسون هم أولى بالاختصاص في البحث فيه بما يجعل نشاطهم يتخذ بعدا علميا، إن هم حظوا بالتكوين اللازم لذلك، والحال أن كل هذا لا يوجد إلا في الجامعة، الوسط الوحيد الذي يتيح للمدرسين أن يتعلموا كيف يصبحوا باحثين، وأن يتجاوزوا ذلك الدور المقتصر على نقل المعارف. وهذا ما يتم في حال الأطباء الذين يتكونون في مدارج الكليات وكذلك المهندسون.
فما السبب في هذا الانحراف ؟ وبأي معيار يحكم على أن التعليم الأولي أسهل من التعليم الابتدائي وعلى أن هذا الأخير أسهل من التعليم الثانوي فلا يتم التكوين الجامعي لتخريج الأساتذة؟ هذا ما يعتقده الجميع وحتى المسؤولون على الشأن التربوي، وإلا لماذا يجز في التعليم الابتدائي والثانوي بطلبة لم يتلقوا أي تكوين أساسي بسيط ( دون التطرق لتكوين جامعي في حقل التربية وعلم النفس) في معترك وظيفة التدريس إلا لكون هذه الوظيفة أسهل من غيرها، يلجها كل من هب ودب، والغريب أن يتم تعيين مباشر ودون تكوين للمشرفين التربويين بدون تكوين أو للذين قضوا سنة في التعليم الابتدائي ويصبحوا مفتشين في الميدان أو لأساتذة الثانوي ليصبحوا مفتشين بشكل مباشر. هل جعل متعلم في سن السابعة أو التاسعة يفهم بنية أولية في الحساب أو التعبير أسهل أم من جعل مراهق يستوعب بنية معقدة أكثر.
نقول أن المنظومة الذهنية للمراهق أقرب إلى عادات الراشد في التفكير والكلام فهو الأسهل لا محالة في التبليغ من الطفل. كما أن الحياة المدرسية للمراهقين مشروطة بتطور البنيات الأولية، أما البنيات العليا فتبقى قابلة على كل حال للتعويض والمعالجة والتصحيح الذاتي من طرف التلميذ المراهق. وهكذا يكون التعليم الابتدائي أشد صعوبة ويزخر بمضاعفات مستقبلية خطيرة بقدر ما يكون التلميذ صغير السن. إن الحل هو التكوين الجامعي الأكاديمي والعملي التطبيقي، ويورد جان بياجي في هذا الصدد تجارب من بينها تلك التي تزعمها لسنين طويلة عالم النفس الكبير (غودفري تومسون) في (أدنبرة) على رأس (موراي هاوس) أو شعبة البيداغوجيا بالجامعة. فبعد أن يتم المدرسون الذين هم في طور التكوين تعليمهم (على مستوى السلك الثاني وفي الجامعات) في مجمل المواد التي يعتزمون تدريسها، يتلقون بالشعبة تكوينا سيكولوجيا وتربويا محضا، ولا يختارون الطور المدرسي الذي يزمعون الالتحاق به إلا في نهاية التكوين البيداغوجي المتخصص. وبعبارة أخرى يتلقى مدرسو الابتدائي والثانوي تكوينهم بشكل جماعي خلال السنوات الختامية من التكوين التربوي، دون أن يحددوا مسبقا الفئة التعليمية التي سينتمون إليها. وفي ذلك عنصران إيجابيان هما: إلغاء عقد النقص وعقد التفوق، وضمان تكوين يرتكز على حاجيات التلميذ أكثر منه على الامتيازات المرتبطة بالوضعية الإدارية لكل فئة، لأن هذه الامتيازات متساوية هنا للجميع. وإذا قارنا هذه التجربة بتجاربنا الفاشلة أول ما نكشف النقاب عنه هو التمييز اللامنطقي والأخلاقي بين فئة الأساتذة والمعلمين في التكوين حيث تتسم المراكز التربوية بالرداءة البيداغوجية والعلمية وتقوقعها حول نفسها وعدم انفتاحها على الجامعة أساس البحث، وكذلك للتمييز بين فئة مدرسي الابتدائي ومدرسي الثانوي من حيث الامتيازات حيث لم يتم تمتيع مدرسي الابتدائي بالسلم 11 إلا مؤخرا وعلى مضض، كما أنهم محرومون من درجة خارج السلم ومن التسهيلات في متابعة الدراسة الجامعية والتعويض عن العالم القروي... كما أورد جان بياجي تجربة (جنيف)، والمبدأ التي قامت عليه هو أن يكون معلم الابتدائي حاصلا على الباكالوريا أولا، ثم يوزع تكوينه المتخصص ثلاث سنوات: خلال السنة الأولى يقوم المرشحون بتداريب عملية بشكل يجعلهم يعون مشاكل التدريس من خلال الممارسة، أما السنة الثانية فيقضيها المرشحون بالجامعة حيث يتابعون دروس علم النفس بكلية العلوم ( المفارقة العجيبة أن شعبة علم النفس عندنا يتم إدراجها في كلية الآداب) والبيداغوجيا في كلية الآداب ودروس خاصة بمعهد علوم التربية (معهد ج.ج. روسو) ويقدمون على إثرها لامتحانات الشهادة. وفي السنة الثالثة يعودون للتداريب الميدانية والعملية . وهذا التكوين يكفي لإثارة اهتمام أحسن العناصر منهم، ويستمر البعض منهم فيما بعد ( أي بعد تعيينهم كمعلمين ) في متابعة دراستهم على هامش نشاطهم المهني إلى حد الحصول على دبلوم أو على إجازة في البيداغوجيا أو علم النفس مع احتمال الاستمرار إلى حد الحصول على الدكتوراه ( يمنح المعهد المشترك بين الكليات كل هذه الشهادات) .
فأين نحن من هذا التكوين، إن ما يقدم في مراكز التكوين كلها ( ما يهمنا هنا هو علم النفس والبيداغوجيا ) لا يعدو أن يكون مجموعة من الدروس النظرية، تهييئا لامتحان التخرج، بينما نجد غياب التطبيقات العملية في هذا الجانب. لأن السيكولوجيا والبيداغوجيا أكثر من غيرها من العلوم، لا يتأتى الفهم فيها للحقائق والوقائع والتأويلات والتفسيرات إلا بالتعاطي الشخصي للبحث. ويصعب تنظيم هذا البحث خارج إطار الجامعة أو المعاهد الأكاديمية المتخصصة.
إن القناعة بأن ميدان المربي كيف ما كان إطاره يشكل حقلا حقيقيا لممارسة البحث والتحري، يكف عن تصوير مهمة المربي مجرد وظيفة، لأكل الخبز تتجاوز الهواية العاطفية إلى الاحتراف، وبالتالي تكتسب سمعتها في آن واحد كفن وكعلم، ذلك أن علوم الطفل وتكوينه كالمعلوميات تشكل اليوم معين بحث لا ينضب.
(يــــتـــــبـــــع)
فضاءات
الخميس 01-04-2010