جدلية الحكامة الجيدة وتحديث فعل التدبيرالتربوي
لاشك في كون مساحة المطارحة الفكرية اليوم حول أنساق الممارسات التدبيرية المحركة لدينامية مختلف بنيات الإنتاج التنشيطية والمشعة إن على صعيد الحقـل السياسي أو على صعيد باقي الحقول الاقتصادية والاجتماعيـة والدالة بقوة على الإنتاجية والفعالية من طرف مختلف القوى الحية للمجتمع، لابد وأن تخضع راهنيا لشرط اقترانها بمصطلـح « الحكامة الجيدة « أو ما يصطلح عليه في معاجم التدبيـر ب» الحكامة الرشيدة « وما يرتبط بها من مجالات ودلالات تحيلنا على قضايا تخصيب وعقلنة فعل التدبير فكرا وممارسة . كما تحيلنا من زاوية طرح آخر على مداخل التعدد التي تحيط بمختلف المفاهيم المؤطرة لسياقات بلورتها وتفسر تنوع امتدادها وخصوبة مشاربها. وهي مفاهيم تصب في مدلولات بناء مجتمع المعرفة، كما ترتبط بمعطى العولمة وتجلياتها الكاسحة وبثورة الاتصال والتواصل الكونية وبتمظهرات الحداثة ومقومات دمقرطة الحياة العامة، ومدخل المشروع الموجه للتحكم في آليات الإنتاج من أجل إذكاء مجالات التنمية والتطوير....أما بالنسبة للمساحة [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] لتناسل مصطلح الحكامة الجيدة في مختلف حقول التدبير، فقد قطع هذا المدلول كما هو متعارف عليه مسارات تاريخية طالما اتسمت باتساع رقعة الاستهلاك الاصطلاحي لمفهوم الحكامة الجيدة في شتى شؤون التدبير والتسيير بمختلف القطاعات الإنتاجية النشيطة للمجتمعات والهيئات والكيانات الدولية وغيرها... وهو اكتساح تدريجي موشوم بالانتشار تصاعديا، إذ أن الحكامة الجيدة تصعد بجذورها تاريخيا إلى حدود القرن 18 لتتبناها كل من الأطروحتين الفرنسية والإنجليزية. وقد تغلغلت في المجال الاقتصادي الموصول بالإنتاج المقاولاتي في القرن 19 ، لتتسرب بعدها في غضون القرن الماضي إلى مجالات التدبير في عالم المال والأبناك، ولتتبناها بعد ذلك برامج التدبيرمن طرف هيئة الأمم المتحدة. كما تنامى وتغذى طرح الحكامة الجيدة أو الرشيدة أكثر فأكثر ليصبح ذا قابلية هائلة للنفاذ إلى عمق الممارسات المرتبطة بشؤون التدبير في شتى حقول الاهتمامات والإفرازات الاجتماعية والعلوم الإنسانية من سياسة واقتصاد وثقافة، ومنها تغلغل إلى حقل التربية والتكوين بغاية التأطير المحكم لمساطر التخطيط والتنفيذ لفعل التدبير وترشيد مختلف الموارد الموجهة لإصلاح السيرورات التدبيرية وعقلنتها. وعلى متن هذه المشاريع ارتبط مصطلح الحكامة الجيدة بحميمية بفعل التدبير على الرغم من اختلاف وتنوع هذه الحقول وشساعة الاختصاصات فيها.
وعلى الرغم من صعوبة وتعدد الحقل الإشكالي المحيط بمسألة التعريف الدقيق لمصطلح» الحكامة الجيدة « ، فان المقاولة تظل الخلية المصدر المؤسس للبعد المفاهيمي لهذا المصطلح ذو الأصل المقاولاتي، والذي تبلور بقوة في ظل تحكيم المسؤوليات والقيادات في علاقاتها مع إعادة صياغة وهيكلة المواقع والاختصاصات للأجهزة المؤسساتية المرتبطة بالمقاولات بغاية تعميق الكفايات وتطوير الخبرات المكتسبة للارتقاء بالجودة في الأداءات المهنية وتطوير مفهوم الاستثمار من خلال ترشيد مختلف الموارد وتطوير مفهوم الاستثمار ومن خلال ترشيد مختلف الموارد بغاية تطوير المنتوج النهائي.
وإن هذا التبني التاريخي لمصطلح الحكامة الجيدة في ارتباط مع مجالات التدبير، ورد في جميع الحالات في إطار تحريك عجلة الإقلاع التنموي ومواكبة ثقافة التغيير والانفتاح الكوني وقيادة كيانات المجتمع الأساسية في اتجاه التحديث واستيعاب مد الكونية الواسع وتعميق البعد السوسيو تنموي واستحضار غاياته الاستراتيجية في كافة مجالات تنظيم هياكل وبنيات المجتمع وإحكام خطط تصحيحها وتطويرها والارتقاء بها.
وان تأصيل مصطلح الحكامة الجيدة الموجه كمفهوم لضبط أنساق وأنماط التدبير الحديث والتحكم في آلياته في شتى حقول الأنشطة القطاعية والمعرفة الإنسانية المسخرة لأغراض التسيير والتنظيم والهيكلة لخدمة قضايا المجتمعات وانشغالاتها التنموية والتي مهما تعددت وتنوعت مجالات وطبيعة موضوعاتها وإشكالاتها، فإن الانتماء العضوي لهذا المصطلح لفعل التدبير يظل قائما في كل الأحوال في ارتباط مع مدلول إعادة صياغة هيكلة تدبيرية جديدة تتحكم بدقة أكثر في آليات وسيرورات التفكير وفي الأداءات والممارسات التدبيرية التي تروم تحديث وتطوير كفايات الإدارة واكتساب فن امتهانها والارتقاء بالفعالية والنجاعة في تطوير مقاييس ومؤشرات الجودة وفتح الآفاق في وجه الإبداع على مستوى الإنتاجية والإشعاع.والغاية العميقة من هذا التوجه تكمن في إعادة الثقة إلى مؤسسات الإنتاج الحيوية والاستراتيجية المؤطرة لكيانات وحقول الإقلاع التنموي في المجتمعات.
كما يرتبط السياق الممارساتي للحكامة الجيدة في حقول التدبير، ارتباط وثيقا بمدخل ترسيخ ثقافة الحقوق الإنسانية والسعي إلى تعميقها وتجسيدها على مستوى ثلاثية التفكير والممارسة وتطوير السيرورات، وما تستبطنه هذه الثقافة المرتبطة بوثوق بطبيعة النسيج العلائقي السائد من زاوية المنظور الكوني من شحنات علائقية ومن خلفيات نظرية وقيمية لتأطير وتخليق ودمقرطة الحياة العامة والحاملة للخيار الراسخ لمركزية الإنسان في قلب الفعل التدبيري المسخر لتحقيق غايات الرهانات التنموية. وبالتالي تتجدر الثقافة الحقوقية بقوة في منطق التحديث على مستوى إحكام العلاقات المهنية والإنتاجية وتنظيمها وضبط التفاعلات الإنسانية في منظومات التدبير مهما اختلفت مجالات وقطاعات الإنتاج الوجودي البشري، من خلال استبطان منظومة الحقوق والواجبات وبلورتها في شكل قوانين ومواثيق علائقية وتواصلية وممارسات ناظمة للعلاقات المهنية مترجمة لقيم التعايش والاختلاف والكرامة وغيرها من شروط تدبير الفعل الجماعي التشاركي...
بذلك تغذي وتطعم الثقافة الحقوقية مصطلح الحكامة الجيدة في التدبير بتعميق الشعور بالمواطنة، وما يرتبط بها من واجبات وما يدور في فلكها من مواثيق منظمة ومهيكلة للعمل لأغراض تعميق الاحترافية المهنية وتأطيرها، إلى جانب ما يرتبط بها من حقوق والداعية إلى اعتماد مبادئ الشفافية وتكافؤ الفرص وإبراز مختلف الكفاءات والطاقات وتحفيز التميز والتفوق من أجل الارتقاء بمعايير الجودة على مستوى الإنتاجية والرفع من النجاعة والفعالية في الأداءات المهنية تعزيزا لمؤهلات الأطر وتحفيزا لقدرتهم على الإبداع والخلق والابتكار، مع التدقيق في المقابل في مساطر العقاب والزجر في حالة اختراق أو تجاوز القوانين المنظمة للعمل أو الإخلال بالحق والواجب أوالمواثيق المؤطرة للعلاقات والاختصاصات...
إلا أنه لا يتسنى اعتماد المدخل الحقوقي لتعزيز الحكامة الجيدة في مجالات التدبير بشكل حقيقي، خارج سياق التأطير القانوني المحكم على مستوى ضبط نسيج العلاقات المهنية داخل منظومات التدبير من خلال التحديد الدقيق للاختصاصات والصلاحيات المخولة لشتى الأطر عن طريق التدقيق في الهيكلة المحددة لمختلف الأدوار والمهام والتحكم في الهندسة الدقيقة لمختلف المواقع والمسؤوليات، والرسم الدقيق لحدودها وآفاقها وتحديد طبيعة العلاقات بينها في ظل نسق تدبيري مندمج ومترابط ومحبك.
بناء على هذا التحليل، يمكن القول أن الحكامة الجيدة أو الرشيدة في حقول التدبير المتنوعة تروم تجاوز أنماط التدبير التقليدية ونزوعاتها الكلاسيكية المفرطة في مركزية القرارات وفي الانقياد للممارسات البيروقراطية ونماذج القيادات المعزولة، مع عملها في غياب استراتيجيات محمكة قائمة على التخطيط والتوقع والاستشراف، مما يتعذر معه تسطير غايات واضحة في المنطلق تمكن من التحكم في صيرورات وفي مسارات التدبير والنتائج. ويكون معطى غياب هيكلة تدبيرية محكمة ومسؤولة بدوره عاملا يساعد على جعل ظروف وشروط الامتهان موشومة بالآلية والارتجالية والافتقار إلى التنظيم والاندماجية مع غياب الوضوح على مستوى الغايات والمقاصد، وهو الشيء الكفيل بجعلها دينامية جد محدودة تذوب في بوثقة العمل اليومي وأهدافه الارتجالية المتقطعة.
فتجاوزا لهذه الاختلالات وللعشوائية في التدبير ومن أجل عقلنة أكبر لفعل التدبير والتمكن من احتوائه وترشيد مجالاته، تتوخى الحكامة الجيدة مقاربته من خلال رسم ووضع استراتيجية محكمة وواضحة على مستوى تحديد الغايات، قائمة على التخطيط والبرمجة والتنظيم والإنجاز واستشراف النتائج والتتبع والتقويم، في إطار اعتماد المقاربة بالمشروع ومكوناته وغيرها من المداخل المرتبطة بمنهجية البرمجة والتدقيق في استراتيجيات العمل.
ويدعو هذا الطرح من خلال سيرورات التنفيذ إلى التحكم في الموارد سواء المالية والمادية أو البشرية منها لأغراض توظيفها الجيد وترشيدها، مع السهر على تأهيل الأطر البشرية ووضوح المساطر المهيكلة للعلاقات والمحركة لدينامية التواصل والاتصال داخليا وخارجيا والتي تمكن بدورها بسهولة من تداول المعلومة والتوظيف الإيجابي للمجالات الإخبارية وتحديث آليات الانفتاح والاستفادة من التكنولوجيات الحديثة والثورة المعلوماتية في التداول والتفاعل.
وترتكز الحكامة الجيدة في التدبير على المقاربة التشاركية إذ تشجع على روح العمل بالفريق وتجاوز الخلافات، لاستغلال وتوظيف كافة الطاقات الخلاقة لتطوير الإنتاجية المؤسساتية والاستفادة من مختلف الفعاليات والكفاءات في تعزيز القدرة الجماعية على التدبير وتطويرها.
كما أن استراتيجية التخطيط في ظل الحكامة الجيدة لابد وأن تنطلق من التشخيص الدقيق للوضعيات الأصلية عموديا وأفقيا، أي تتطلب القيام بالتشخيص الداخلي الذاتي وكذا الخارجي مقارنة مع المؤسسات المرتبطة بنوع الحقل الإنتاجي الذي تشتغل عليه أو غيره وذلك بغرض التحديد الدقيق للأولويات والعمل بالمشروع. كما تستدعي هذه الاستراتيجية، كذلك التحكم في سيرورات التنفيذ من خلال تحديد الوعاء الزمني لاحتواء المتطلبات الزمنية قصد التمكن من الأجرة العملية والتنفيذ والتي تمكن بدورها من التحكم في كل من الموارد والآجال.
وإلى جانب ارتكازها على منهجية التدبير بالتعاقد والتدبير بالنتائج والتي تتم عن طريق ربط الغايات بالنتائج في ظل العمل بالمشروع والبرمجة الدقيقة لمكوناته والتحكم المطلق في آلياته وسيروراته والتحكم في خارطة المهام والأدوار مع نهج القرب والانفتاح، لا يمكن ترسيخ مفهوم الحكامة الجيدة في ظل بنيات تدبيرية محكمة دون تقويم الأداءات والإنتاجية والتحكم في مؤشرات الجودة والفعالية والنجاعة على مستوى الخدمات والإنجازات المصاحبة لسيرورات التنفيذ والأجرأة من خلال تقويمها ووضع آليات دقيقة وعلمية من أجل التتبع والتصحيح. هذا إلى جانب اعتماد مقاربة الافتحاص الداخلي )داخل مؤسسة أو حقل أو قطاع الإنتاج(، وإلى جانب اعتماد مقاربة الافتحاص الخارجي أيضا )الممارسة على المؤسسة أو القطاع الإنتاجي من الخارج( بغاية تقويم هذه السيرورات، إلى جانب تقويم الحصيلة ممثلة في المردودية والأداءات والإنجازات الفعلية في حدود الضوابط القانونية والحقوقية والغايات المسطرة لها والوعاء الزمني الذي يحتويها وصرف الإعتمادات المخولة للتمويل وغيرها من الضوابط المؤطرة لها، وهو ما يصطلح عليه بممارسة حق الرقابة والمحاسبة المؤسساتية أو القطاعية والمساعدة على التطوير الذاتي والقدرة على التنافسية والارتقاء بالإنتاجية... ولا جدل اليوم وفي أكثر من أي وقت مضى في كون منظومة التربية والتكوين وإشكالاتها المرتبطة بدينامية التطوير والتحديث من جهة وبالرصيد المتراكم لانشغالاتها واهتماماتها المتمحورة حول قضايا التأهيل الاجتماعي لإنسان الموجهة لأغراض المواطنة الصالحة واكتساب القدرة على الانخراط الإيجابي في منظومة النسيج المجتمعي الهوياتي والكوني معا، أضحت أكثر القطاعات التنموية المكرسة لتأطير المجتمع وإشباع حاجاته السوسيو تنموية لقيادة المشروع المجتمعي، مما يبرر احتلالها لمواقع الأولويات القطاعية الرائدة والمسؤولة عن قضايا التنمية المستدامة ببلادنا بعد قضية الوحدة الترابية المقدسة المستلهمة لجوهرها من الإرادة الملكية السامية ومن روح الإجماع الوطني . وبذلك يعد ورش بناء المدرسة الوطنية الجديدة قضيـة المجتمـع برمتــه والمسؤوليــة المشتركـة لمكوناته الحية، إدراكا من القوى المجتمعية أن هذه المدرسة نفسها موكولة بامتياز بدور الاستثمار في الرأسمال البشري وموكولة بوظائف التنشئة الاجتماعية على رأس المؤسسات المجتمعية المؤهلة لذلك من أسرة وإعلام...على اعتبار المدرسة العمومية الوعاء المؤسساتي الكفيل بالتأهيل البشري والتأهيل الإجتماعي خدمة لمستلزمات التنمية ورهاناتها الآنية والاستشرافية. كما يعتبر الوعاء الذي تصب فيه كافة تمظهرات وتجليات الحياة المدرسية بمختلف إيقاعاتها وتدفقاتها وإشعاعاتها وحمولتها التربوية وديناميتها الفكرية والثقافية.
فلابد إذن لهذه المؤسسة الحيوية من مواكبة مقومات التغيير والتجديد، ومن اكتساب القدرة الحقيقية على تطوير الذات والقدرة على استيعاب خطاب التحديث والدمقرطة والانفتاح... ولابد لها أن تذوب في ثنائية الأصالة والكونية بشكل يحفظ توازناتها الثقافية والحضارية الهوياتية، ويراعي مقدساتها الروحية ومرجعياتها الأخلاقية والقيمية...
فتبعا لهذه الحاجات ولهذه التحولات العميقة التي تشهدها مختلف حقول التفكير وضروب التصور والتنظير لقضايا التسيير وقيادة التغيير في جميع المجالات، فقد رسخت القناعة وعمت بضرورة عقلنة فعل التدبير في الشأن التعليمي في علاقة وطيدة مع قيادة فعل الإصلاح وتوجيهه لخدمة قضايا إرساء المدرسة العمومية الجديدة والارتقاء بجودة أداءاتها وبمقومات الحياة المدرسية فيها، مع جعل المتعلم في»قلب الاهتمام والتفكير « في كافة مداخل التصحيح والتطوير.
بذلك عرف مجال التدبير التربوي في الحقل التربوي طفرة نوعية عميقة من خلال إعادة هيكلة وصياغة مختلف المقاربات والمداخل والآليات المرتبطة بتدبير الشؤون التربوية للقطاع لأغراض العقلنة والترشيد. واغتنى هذا التوجه باعتماد الحكامة الجيدة والتبني لهذا المصطلح في مجال تدبير المنظومة التربوية على شاكلة باقي القطاعات المنتجة وحقول التنظير والتأطير السياسي والاقتصادي والاجتماعي الثقافي. التي تخدم مصالح المجتمع وتفي بانشغالاته التنموية سيما وأن هذا القطاع الحيوي، مافتئ يعرف نزوحا مستفيضا على مستوى الاختصاصات والصلاحيات من المركز في اتجاه الجهات والأقاليم والمؤسسات التعليمية في ظل الطفرة الإصلاحية الجذرية والكبرى والتي تحرك بشكل حثيث ملامح المشهد التربوي منذ الدخول في شكل خاص في عشرية الإصلاح 2010/2000 عملا بمقتضيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين وتجسيدا لهذا الخيار الوطني راهنيا من خلال مشاريع المخطط الاستعجالي 2010/2009 والقاضية بتسريع وتيرة الإصلاح ومقاربة فعل الإصلاح بالمشروع. وهذا التوجه يظل طبيعيا وتلقائيا في ظل ترسيخ دعائم الجهوية وتعميق تجربة العمل بها وإقرار نهج اللاتركيز واللاتمركز بتعميق المواقع الفعلية للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين بالجهات وتعميق أدوار النيابات الإقليمية في الأقاليم بحكم مباشرتها لفعل الإصلاح في الميدان ومسؤوليتها الممتدة إلى المؤسسة التعليمية بالأوساط الحضرية والقروية على حد السواء والمسؤولة على توفير الشروط الداعمة لمقتضيات الإنصاف وتقليص الهوة الفاصلة بينهما.
ويرنو هذا الخيار تعميق سلطة القرار التربوي الجهوي والإقليمي والمحلي مع المزاوجة بين بعد الاندماجية في الهرم النسقي لسياسة إصلاح النظام التربوي وتوجهاته الوطنية ومراعاة البعد السوسيو مجالي للجهات والأقاليم على مستوى توظيف الثروات والطاقات واستغلال المؤهلات والانطلاق من الحاجات المحلية لتقليص حدة التمايزات التنموية بين الجهات والأقاليم امتثالا لخيارات البلاد الاستراتيجية الكبرى المكرسة للنهج الجهوي، وان إسقاط مصطلح الحكامة الرشيدة على مفهوم التدبير وسط هذا الزخم من التوجهات والخيارات الاستراتيجية المؤطرة لغايات وسياقات سياسة الإصلاح للقطاع التربوي ببلادنا، أصبح ضرورة ملزمة في ظل كسب رهان التحديث مواكبة للتحولات العميقة التي تشهدها الساحة الوطنية والدولية آنيا.
والحكامة الجيدة في حقل التدبير التربوي لا تخرج عن دائرة الضوابط والممحدات والمقاربات والآليات المؤطرة لهذا المصطلح ولمفهوم التدبير الحديث عموما في باقي الحقول الإنتاجية النشيطة والبنيات المؤسساتية التدبيرية المرتبطة بالمجال المقاولاتي الصــرف وغيـرها .
ذلك أن قضايا تبسيط المساطر الإدارية والتدقيق في المرجعيات التنظيمية والإطارات القانونية المهيكلة لهندسة مختلف المواقع والمسؤوليات والمحددة لمختلف الأدوار والمهام، تعتبر مؤشرات قوية على التدبير العقلاني والتبني الفعلي لنهج الحكامة الجيدة في مجال التدبير التربوي، سواء تعلق الأمر بتدبير قضايا المنظومة التربوية مركزيا أو جهويا أو إقليميا أو محليا. هذا إلى جانب ضرورة الترويج لثقافة المواثيق والحقوق و ترجمتها إلى دلائل وقوانين داخلية وتشريعات ومرجعيات تأطيرية تخضع باستمرار للمراجعة والتحيين لتغذي الإدارة التربوية بشحنة القدرة على مواكبة المستجدات والتأطير العقلاني والناضج لمنظومة العلاقات سواء المتعلق منها بتخليق الحياة الإدارية في القطاع التدبيري التربوي ككل أو المتعلق منها بالحياة المدرسية والذي يتغيى السهر على تطويرها كمجتمع مصغر يعج بالحياة ويؤثث فضاءات التربية والتكوين ببلادنا، ويكون قادراعلى مواكبة الحركية الدائبة لروح التجديد التي تطول حقول التفكير والتنظير والفعل والممارسة بالمنظومة التربوية والموشومة بالاستيعاب السريع للتغيير وقدرتها الخارقة على امتصاص دواعيه وتجلياته ومؤثراته الداخلية منها والخارجية.
وتنبني الحكامة الجيدة في القطاع التعليمي إضافة إلى ذلك، على ترشيد الموارد المالية والبشرية واعتماد المقاربة بالمشروع ومنهجية التعاقد والتدبير بالنتائج وتقويم السيرورات وغيرها من المقاربات التي تروم التحكم في فعل التدبير وقيادته لاستيعاب منطق التحديث.
وتمتد هذه الغاية في ظل الشروع الميداني الفعلي في تطبيق المخطط الاستعجالي بالموازاة مع مجريات الموسم الدراسي الحالي2010/2009 ، إلى قلب المؤسسة التعليمية الموكولة بتدبير الشأن التربوي المحلي والاجتهاد الموصول بترسيخ ثقافة المبادرة لذى المسؤولين المحليين القائمين على تسييرها ورعاية شؤونها لقيادة الإصلاح بشراكة مع كل من ممثلي السلطات المحلية والفرقاء الاجتماعيين النشيطين.
فالمدرسة المغربية مدعوة الآن وأكثر من أي زمن مضى في ظل ترسيخ ثقافة القرب ومنحها الإطارات الحقيقية لممارسة استقلالها الذاتي من خلال التأسيس لجمعية جيل مدرسة النجاح بها ومن خلال تعميم مدخل العمل بمشروع المؤسسة، لاستجماع وتفعيل كافة طاقاتها الحيوية وتوظيف قواها المنتجة لعقلنة فعل التدبير المحلي وقيادة مسارات الإصلاح لخدمة قضاياها المحلية والسهر على خدمة مصالحها الذاتية مع مراعاة مدخل التدبير بالأولويات. فهي بدون منازع الخلية الأم الموجهة لاستقطاب كل الطاقات والمجهودات لإنجاح الإصلاح ولامتصاص كافة الإمكانيات المعنوية والمادية المتاحة لتطويق اهتماماتها وخدمة انشغالاتها انطلاقا من مؤهلاتها الذاتية وقدرتها المؤسساتية على القيادة والتسيير والخلق والإبداع والانفتاح على مكونات المجتمع بغاية تجاوز الاختلالات والصعوبات الذاتية والمعيقة لتدفق الحياة المدرسية بفضاءاتها، مما يطرح بإلحاح مسألة تأهيل الأطر والموارد البشرية والتدقيق في مسؤوليتها واختصاصاتها.
وللحكامة الجيدة على مستوى فعل التدبير المحلي بالمؤسسة التعليمية ارتباط عضوي وثيق بآلياتها المشعة والحيوية والمتمثلة في مجالسها التربوية وأدوارها الطلائعية في عقلنة برامجها وترشيد مواردها وصيانة ممتلكاتها وتأهيل فضاءاتها التربوية وتنشيط الحياة المدرسية وتطوير الفعل التربوي والمداخل البيداغوجية المؤهلة لإنضاج شخص المتعلم والمتمحورة حول حاجاته الطبيعية للنمو والمعرفة والنشاط والحركية والإبداع والتميز...كما تتمثل هذه الآليات كذلك في النظام الداخلي ومواثيق المؤسسة التعليمية الحقوقية والقانونية ، وفي البيئة نواديها التربوية وشراكاتها وجمعياتها المدعوة لتأطير منظومتها العلائقية والتواصلية وتنشيط كينونتها الفكرية والثقافية وتكييف تأثيراتها على المحيط مع مقومات المواطنة المسؤولة والناضجة، على مستوى ممارسة المتعلم لوجوده الاجتماعي والتي لا يمكن أن تتم إلا باقتران الفعل المعرفي التربوي المكتسب مع الفعل الحياتي المؤطر لعلاقاته التفاعلية والإنتاجية مع المجتمع.
نائبـة وزارة التربية الوطنية بصفــرو
4/22/2010
4/22/2010