المثالية النقدية
وفكرة العقلنة عند ماكس فيبر
الشقيري عبد المنعم
يكمن ثقل التراث الفلسفي الألماني في درجة استيعابه وهيمنته على كل المجالات المعرفية والفنية بما في ذلك الموسيقى والنحت ولا ينحصر الأمر عند هذا المستوى بل يتجاوزه إلى مستوى تحديده لمسارات ومعالم هذه المجالات من خلال تقديم رؤى وتصورات للتاريخ والوجود والإنسان.
لقد ظلت السوسيولوجيا الفيبرية هي الأخرى رهينة هذا الثقل الفلسفي الضخم. يتجسد ذلك بشكل واضح عبر أثر المثالية النقدية على شروط التفكير الفيبري بصدد العقلنة. فقد منح للظواهر القيمية منطقا وقانون تطور محايث لا تنتج إلا منه، إذ تظهر في كل مرة بوصفها السبب الأخير للسيرورة الإجمالية الشاملة. يقول في هذا الصدد "أن المصالح المادية والمثالية، وليست الأفكار هي التي تحكم مباشرة سلوك الناس، ومع ذلك فإن "تصورات العالم" التي خلقتها الأفكار هي التي تحدد غالبا المساوات التي تندفع عبرها التصرفات متأثرة بدينامية المصالح"*. إننا أمام نفحة من نفحات الفكر الفلسفي المثالي الألماني والذي تجلى في عمق الارتباط بين روح البروتستانتية والفلسفة المثالية.
إنها حركة لا يمكن حصر أصولها وجذورها، إلا في ألمانيا حيث وجدت أعمق تعبير لها عند كانط وفيخته وهيجل، هؤلاء الأشخاص ذوو التكوين الفلسفي الذين استطاعوا التعبير عن الفكرة الأساسية للإصلاح. لقد عبر إرنست ترولتش Ernest Troeltsh عن هذه الروح الألمانية التي أهلت للعقلنة الغربية بأنها "تجسيد لديانة الوعي والاعتقاد الشخصي منسجمة مع الحضارة الفردانية الحديثة"**.
على هذا الأساس يقتضي منا فهم الإنتاج الفيبري عامة، ومسألة العقلنة بالخصوص، وقفة تحليلية دقيقة لطبيعة الشروط الإبستيمية، التي عملت على إنضاج وبلورة تصوراته حول مفهوم العقلنة، بصيغة أخرى، سنحاول الوقوف على الأفق الإبستيمي الذي لم يكن بمقدور فيبر Weber سوى التفكير به ومن داخله في هذا المفهوم.
لن نعمد إذن إلى البحث عن تاريخ المفهوم بقدر ما سنحاول البحث عن الروابط الخفية التي أهلته للتفكير في موضوع العقلنة. من هذا المنطلق ارتأينا الفرضية التالية:
I- لم يكن بالإمكان التفكير في مفهوم العقلنة إلا بعد هضم روح الفلسفة الكانطية والكانطية الجديدة بتداعياتها، انطلاقا من العناصر التالية:
1- وحدة الوعي.
2- الذات كقوة عقلية.
3- الذات كقوة أخلاقية.
I- الكانطية والكانطية الجديدة أو [الخلفية الفلسفية لتناول مفهوم العقلنة].
شكل إرث الكانطية والكانطية الجديدة أرضية فلسفية، أطرت تصورات وأفكار فيبر سواء بالنسبة للمناهج المرتبطة بالتاريخ والاقتصاد والاجتماع، بل إنها مثلت الخلفية الأساسية لموضوعه الجوهري المتعلق بالعقلنة، إذ لا يمكن فهم العمل الفيبري إلا من خلال المظاهر الواسعة للتفكير الكانطي وما استتبعه من تصورات الكانطية الجديدة والتي يمكن التعبير عنها في ثلاث نقط رئيسية:
1- وحدة الوعي:
يرى كانط أن النشاط الفكري موجه عبر مجموعة من الأفكار المركبة والمتناسقة أو ما يفر بنسقية التفكير، حيث "تقوم الذات العاقلة بجمع المعطيات الحسية عبر الإدراك الحسي لتحويلها إلى معقولات بواسطة إقحام مقولات كالوحدة والسببية والإمكانية والتي تجعلها قابلة للتفكير"(1).
نجد في نفس السياق هرمان كوهن (1918-1942) Herman Cohen(2) الذي يرى أن ليس هناك موضوع غريب عن الفكر، وليس هناك معطى خارجي فكل حقيقة أو واقعة هي من إنتاج الفكر. لقد استثمر كوهن Herman Cohen أطروحة كانط وتجاوزها بادعائه العقلاني "إن الفكر الخالص هو الوحيد الذي ينتج بذاته المعارف الخالصة، إذ ليس هناك معطى حدسي خارج التفكير أو سابق عليه فكل مضمون كلي هو من إنتاج الفطر"(3).
2- الذات كقوة عقلية:
يبرز إيمان كانط بالقوة العقلية للذات، من خلال نقطتين أساسيتين:
أ- الأفكار ودورها الفعال كسبب في التحول الاجتماعي والسياسي.
ب- الوجود الإنساني وقدرته على تشكيل دلالات رمزية وتأويلية لعالمه(4).
هاتان النقطتان هما اللتان جعلتا رائد مدرسة ماربوغ Marbourg [الكانطية الجديدة المنطقية]، هرمان كوهن يعتبر الفكر وحده كفيلا بإنتاج موضوعاته سواء كانت عملية [داخل علم الفن] أو أخلاقية (داخل عالم الفصل) أو حسية (داخل عالم الفن). إذ يتخذ الوعي صبغة عفوية تلقائية: إنه قمة التعبير عن الاستقلالية الكبرى للعقل(5).
- عالمية التجربة الإنسانية: ليس هناك حدود للفكر أو لوقائع خارجة. يقول Martin Albrow "بهذه العناصر، أصبحت إمكانية الحديث عن مفهوم مركزي وأساسي وهو مفهوم [رؤية العالم] والذي سيكون له وقع كبير في التفكير الفيبري، فحينما تعامل فيبر مع فكرة العقلنة فإننا نجده قد تعامل مع ثقافة متحولة عما استحدثه كانط من رؤية جديدة للفكر الألماني"(5).
لقد أصبح العقل بمثابة قوة نافذة داخل التفكير الفيبري، إذ تتجسد قدرته في تجميع كل المعارف التاريخية المشتتة في إطار ما أسماه "بالنمط المثالي" لتجميع وانتقاء المعلومات والمعطيات حتى تيسر عقلنتها. إذ يبحث العقل عن الوحدة داخل التعدد كتعدد كتعميم مجموعة من القوانين داخل مبدأ عام. صحيح أن العالم الخارجي يعرف الفوضى والشتات، إلا أن مهمة العقل هي محاولة تشكيل وتنميط هذا العالم عبر الفهم. هناك إذا "علاقة منطقية اتجاه عالم الموضعات، وهي التي تسمح ببناء موضوعات العالم، إنها بؤرة أساسية لعقلنة وفهم في ارتباطه بهذا البناء، كأن نضع شيئا معينا نستطيع من خلال فهم باقي الأشياء نجد نفس الأمر عند فيبر Weber حيث يطرح مفهوم العقلنة كمفهوم مركزي داخل علم الاجتماع لضبط وفهم آليات التطور الذي حصل في المجتمع الإنساني"(7).
إننا أمام وحدة يقوم بها العقل الإنساني، وبعبارة أخرى الذات حينما تقوم بتوحيد وعقلنة الموضوع أو ما درجت الكانطية على تسميته.
بالعقل والذات الأخلاقية:
يرى كانط أن العقل جوهر وسند الذات الأخلاقية من تم فإنه يشترط في صحة الفعل الأخلاقي:
أ- تحديد الفاعل الحر.
ب- تبني هذا الفعل من طرف الآخرين.
ج- تحول هذا إلى قانون كوني(8).
شكلت هذه لعناصر العقلانية للفعل الأخلاقي منطقيا لتصورين متناقضين للفعل الأخلاقي. الاتجاه الذي يرى صحة الفعل الأخلاقي بنتائجه، وهو ما يدعى بالأخلاقية الغائية Teleologique وتداعياتها النفعية في المقابل نجد نظرية أخلاق الواجب Deontologie المتبناة من طرف كانط، والتي ترى معيار صواب الفعل رهينا بمدى مطابقته لقاعدة أو أمر ما. وهو يفترض تمتع الذات الفاعلة الأخلاقية بحيز كبير من الحرية إنها غاية وليست وسيلة تبرز هذه الإدارة الحرة للذات من خلال المفاهيم التالية:
أ- "الذات وقدرتها على تطبيق القواعد والامتثال لها.
ب- صحة القواعد رهين بكونيتها.
ج- حضور عنصر الوعي والإرادة في اتابع مقابل الاندفاع والاختيار اللاعقلاني"(9).
لقد جعلت هذه التصورات والأفكار كلا من فيند لبند (1945-1848) Wilheln Windelband وريكرت (1963-1863) Heinrich Rickert يقومان بتعويض واستبدال الوعي المعياري بالأنا المفكرة فقد حول فيند لبند Windelband(10) المثالية الكانطية إلى مثالية أخلاقية ليصبح بموجبها موضوعية وحقيقة تمثل ما رهين بمعياريته أي درجة تطابقه وملاءمته لمعايير التفكير.
تصبح المعرفة من هذا المنظور حكما Jugement ذا صبغة عملية وحتى تكون ثمة قيمة معرفية لهذا الحكم، يجب أن لا تنتصب الذات حكما، بل عليها أن تترك ذاتها مسيرة وموجهة عبر الإحساس بالواجب يقول ريكرت Rickert في هذا الصدد "ما يقود حكمي ومن تم معرفتي هو الإحساس بأنه يجب أن أحكم بهذا الشكل وليس ذاك"(11). فالوعي الأخلاقي يجعل الذات مقدمة داخل عالم خاص مختلف عن عالم الوجود، إنه عالم القيم وقد عبر عن ذلك بمقوماته المشهورة "أن تعرف يعني في العمق أن تقوم بتقييم" هذه القيم ليست منطقية فقط، ولكنها أخلاقية واستطيقية.
لا يمكن إذا فصل المشروع الابستمولوجي الفيبري عن طبيعة الصراعات القائمة آنذاك بين مجموعة من الاتجاهات بما في ذلك أطراف الكانطية الجديدة مدرسة ماربورغ المنطقية ومدرسة باد الأكسيولوجية والتيارات الوضعية أو بين النزعة الكلية Holiste والنزعة السيكولوجية إذ يمكن القول أن"هذا الصراع الغير محسوم قد شكل جوهر الفلسفة الفيبرية"(12) ومع ذلك تبرز آثار وأبعاد المثالية النقدية داخل الفلسفة الفيبرية خصوصا في مستوى تناول العقلنة. يبدو جليا حينما نستنطق عناصر التأثير، بالنسبة للعضو الأول المتمثل في:
1) وحدة الوعي:
نجد أن هذا العنصر قد فتح آفاق للتصور الفيبري لمفهوم النمط المثالي. فإذا كانت الذات العاقلة تجمع بين عناصر الإدراك الحسي والإدراك العقلي، في إطار وحدة الوعي عند كانط فإن فيبر يرى أن النمط المثالي: "تصعيد وجمع بين وجهة نظر أو مجموعة وجهات نظر وتسلسل وترابط مجموعة من الشواهر المعطاة بشكل منعزل منتشرة ومتسترة بهذا فإننا نرسم لوحة منسجمة"(13).
يسير فيبر على خطى كانط من حيث تركيب العناصر وتنسيقها، ومع انتقائها إذ يستند إلى مفهوم (الدلالة الثاقفية)، وهي الأفكار أو القيم التي ترتبط بها هذه العناصر، والتي لا تعطيها أهمية في ذاتها وإنما في علاقاتها بموضوعاتها.
تبرز نبرات المثالية في التصور الفيبري في كون "النمط المثالي مجرد لوحة أوجدول من الأفكار. إنه ليس الواقع التاريخي وليس أيضا الواقع "الأصيل" بل يصلح كخطاطة من خلالها يتم تنظيم وترتيب الواقع إنه المثل أو النموذج الذي لا دلالة له سوى أنه تصور محدود مثالي خالص، من خلاله نقيس الواقع لتوضيح المضمون الاختياري لبعض العناصر المهمة التي تقارنه بها"(14) إننا أمام خطاطات وقوالب ذهنية يتم الاعتماد عليها في تركيب وتأليف عناصر أحداث ما. فما هو أساس داخل هذه الأداة هو عملية الانتقاء وترتيب الجوانب المهمة داخل عالم الوقائع أكثر من كونها صورة أو نسخة لأي جزء من أجزاء أو عناصر هذا الواقع ويزداد الأمر أكثر وضوحا وتظهر الصورة الكانطية لمفهوم وحدة الوعي حينما نتأمل قولة فيبر معبرا عن قيمة التصورات كوسيلة لتنظيم المعطيات الاختيارية "إنها ليست غاية في ذاتها، إنها وسائل ذهنية تساعد العقل لكي يصبح سيدا على المعطيات الطبيعية"(15).
2- إيمان كانط بقوة العقل:
متجليا في أهمية الأفكار ودورها في التأثير وكسبب في التحولات الاجتماعية والسياسية من جهة وفي علاقته بالوجود الإنساني وقدرته على تشكيل دلالات رمزية وتأويله لعالمه يتبين مدى تأثير العنصر الأول في العمل الفيبري من خلال الأولوية التي يعطيها فيبر للبناءات الفكرية ودورها في فهم وتفسير الأحداث، ومبررا المجتمع يستلزم تحديد طبيعة أفكاره وتصورات أفراده، يقول في هذا الصدد: "يمكن دور النمط المثالي في التمكن من الأفكار التي تحكم سلوكات الناس في عصر معين. إنها حركت أناسا غير محددين رغم اختلافهم وهي واضحة من حيث المعنى، وكذلك من حيث الشكل والعمق"(16) يبدو أن فيبر على عكس أطروحة ماركس بدل الخضوع لوجود الناس لتحديد وعيهم وأفكارهم وتصوراتهم نجده يذهب إلى مضمون الوعي والأفكار لاستنطاقها كعنصر محدد، لكل ما هو واقعي واختياري هذه الخلقية المعرفية جعلت فيبر يقيم علاقة شبه سببية بين العقلنة وبين التصورات والقيم والأخلاق.
يبدو تأثير هذين العنصرين من خلال التعريف الذي يقدمه فيبر لمفهوم الثقافة "إنها من وجهة رؤية الإنسان بمثابة خط مستقيم متناهي، يقوم الفكر باستثماره من حيث أهميته ودلالاته بالنسبة لمال العالم اللامتناهي الغريب عن كل دلالة"(17) نلاحظ اعتراف فيبر بالقيمة الاعتقادية للدلالات ذات المضامن الثقافية، ودورها في توجيه البحث والتعرف على الواقع المتفردة إذ بدون الاعتقادات لن يكون للبحث أو للمعرفة أي معنى العلاقة بالقيمة ذلك أن موضوعية العقل عند فيبر رهينة بمفهوم العلاقة بالقيمة، وهي تقتضي توجيها نحو الأحداث الثقافية. فالثقافة مفهوم قيمي بل يصبح الواقع التجربي في هذا الإطار ثقافة بقدر ما نقربه وننسبه إلى أفكار قيمة فتصورنا للثقافة هو تصور للقيمة إذ أن الواقع الاختياري هي ثقافة في أعيننا، من حيث أننا نربطها بأفكار القيمة. إنها تلتحم بعناصر الواقع، خصوصا حينما تكتسب هذه العناصر دلالات بالنسبة لنا عبر العلاقة بالقيمة فنحن أمام جزء من واقع اقتطعناه يأخذ كل مرة لونا معينا حسب القيمة التي نضيفها عليه وهو ما عبر عنه دلتاي Dilthey بمفهوم "من الحياة إلى الحياة".
لعل هذا ما جعل رينسمان Runiceman يخلص إلى حقيقة عناصر النزعة المثالية في التصور الفيبري من خلال مفهوم [العلاقة بالقيم] حيث يقول: "يتفرع مفهوم العلاقة بالقيم من معرفة ضمنية خفية مثالية أكثر مما هي وضعية"(18) وهو في نظره خطا فيبري. فمن عيوب هذا التصور القيمي للفعل الإنساني جعل عالم الاجتماع محاصرا بمعيار واحد أثناء دراسته لمعنى سلوك ما كما عبر عن ذلك فتجنشتين Wittgenstien حينما نستوفي البرهان على علاقة بين سبب ونتيجة، فإن السبب يتحول إلى تصور، وهذا هو جوهر المشكل لأنه يسقطنا في أحادية جديدة. صحيح أن مفهوم العلاقة بالقيم يمكن الباحث من فهم الظاهرة، إلا أن هذا لا يمنع المرور إلى مستوى التفسير والبحث عن القوانين الضابطة المفسرة كما هو الشأن بالنسبة لعلوم الطبية فعالم الاجتماع مطالب بتقديم تفسيرات لائقة على مستوى المعنى وتفسيرات ملائمة من الجهة العلمية. وحتى يضمن فيبر شروط الانتقال من مستوى فهم المعنى إلى مستوى التفسير السببي، فإنه يقوم بافتراض النمط العقلي للفعل: حيث يستخدم الفاعل الوسائل المناسبة على الوجه الذي يتيسر فيه معرفتها من الناحية العلمية. كأن نقول مثلا بتفسير الفعل عبر إرجاعه إلى غاية يفكر فيها الفاعل بتوظيفه لوسائل مطابقة لتلك الغاية. إلا أن العلية هنا في نظر فيبر، ليست مسألة ضبط القوانين بقدر ما هي مسألة علاقات عينية فردية. فلا يتم إرجاع حادثة إلى قانون عام يضبطها ويفسرها، وإنما إسنادها إلى عناصر معينة ساهمت في تشكلها واستخراجها إلى أرضية الواقع. فالرأسمالية مثلا هي حصيلة تشكل مجموعة من العناصر مثلث العقلنة الرأسمالية التي انعكست بدورها على ظهور النمط الاقتصادي.
ليست العلية في نظر فيبر غاية، بل هي وسيلة تيسر عملية الإسناد السببي لظاهرة من حيث أهميتها من الوجهة الثقافية أو الدلالية. وهنا تبرز أيضا ملامح النزعة المثالية الفيبرية، فعوض الرجوع إلى طبيعة المكانة، والوضعية تي يحتلها الموضوع، فإنه يتم الرجوع إلى بناء تمايزات وترابطات نوعية هدفها على حد تعبير فيبر الانتقال من مستوى المعنى الظاهري إلى مجال الموضوع ذاته، بحيث تعطى الأسبقية للمقولات التي ينطلق منها الباحث على موضوع البحث الأمر الذي جعل رينسان Runuciman يخلص مرة أخرى إلى حضور النفحة المثالية "فخلف كل تفسير لسلوك اجتماعي هناك ارتباطات سببية بين إجرائية المتغيرات المحددة التي من خلالها يتأسس ما هو خفي وكامن"(19).
هناك من أراد تخليص فيبر من هذه الصورة المثالية، فقد ادعى تيرنر Brayan Turner تأكيد فيبر على أن أي تصور، يدعي أن الرأسمالية هي خلاصة مرحلة الإصلاح أي الأخلاق البروتستانية يعتبر تصور أقرب إلى الغباء والمذهبية"(20) بل إن مفهوم السببية هو أكثر تعقيدا مما يتصوره ذوو الزعم المثالي. ومع ذلك يرجع تيرنر Turner إلى نفس المقاييس، التي استعملها رينسمان Runucinman لإثبات عناصر الفلسفة المثالية خلف تصوراته المنهجية، حيث يقول: "لقد كان فيبر مهتما بتوضيح واكتشاف العلاقات وأوجه الالتقاء المعقدة بين المهن والمعقدات والتصرفات ذات المعنى. فمهمة عالم الاجتماع هي فهم دوافع الفاعلين الاجتماعيين ليخلص إلى أن فيبر لا يأخذ بوجهة النظر الوضعية أو الهيومية (نسبة إلى ديفيد هيوم) في تصور السببية ولكنه يحاول تفسير التصرفات أو الأفعال عن طريق فهم المعاني الذاتية"(21).
يبدو أن جوهر الأطروحة الفيبرية هو تبرير أي سلوك عبر الحوافز الفردية التي تعتبر أساس تشكل التصورات، فوراء كل فعل هناك حافز "إذ لا يمكن البرهنة عن الفعل من خلال الفهم المتوالي للحوافز باعتبارها الخزان الحقيقي لتفسير السلوك الملاحظ"(22)، فليس هناك أي اتساق في إرجاع الفعل إلى الحافز لتفسيره. قد يكون هناك علاقة منطقية بين الحوافز والأفعال على حد تعبير رينسمان ولكن لا يعني أن تتحول إلى علاقة سببية. وهو ما جعل فيبر لا يفسر الأشياء انطلاقا من ذاتها بل يقوم بتوحيد الغاية والحافز، كضرورة قبلية للتفسير والشرح. إننا أمام صورة من صور المثالية النقدية الكانطية، التي تحضر بكثافة داخل النص الفيبري. يتجسد هذا الحضور في الموازنة والمطابقة التي يقيمها فيبر بين العقلنة القيمة، وبين العقلنة الغائية فالفعل العقلاني القيمي هو فعل يقوم بعقلنة ولا يطابقها وما نظرية الفهم سوى الأفعال والمواقف ومعتقدات الذوات الفردية مفهومة متضمنة لمعنى [يعطيه الفاعل لسلوكه] وهو الكفيل بأن يكون سببا حقيقيا للفعل، سواء كان معتقدات أو مواقف أو قيم فأداة الفهم بمثابة إثبات لوجود عقلانية خلف العقلنة الدينية، والتصورات القيمية التي يحملها البروتستاني اتجاه العالم في سلوكه وأفعاله. يقول فيبر: "تجد المعتقدات ووضعية الذوات الاجتماعية تفسيرها في أسباب قوية معقولة، إذ نعثر وراء هذه الاعتقادات على مبررات عقلية، وهذا لا يصدق على الاعتقادات العلمية فقط بل على الاعتقادات الأخلاقية والدينية"(23) المثال الفيبري الذي يقدمه بدون Boudon : نموذج اعتقادات الفلاحين السحرية وعدم مقدرتهم على التنبؤ بمآل الظواهر الطبيعية. فهم يرفضون التصديق بخضوع الظواهر لقانون ونظام ثابت لأنه يعني بالنسبة لهم التقليل من إمكانية التكهن المتعدد الأوجه والذي تتيحه الاعتقادات الطقوسية السحرية. فهو سلوك مبرر عقلانيا بل إن عقلانيته تمكن في سياق الغايات التي يطمح إليها هؤلاء الفلاحين. ينقلنا هذا إلى العنصر الأخير من عناصر وإرث المثالية الألمانية المؤثرة في التفكير الفيبري.
وفكرة العقلنة عند ماكس فيبر
الشقيري عبد المنعم
يكمن ثقل التراث الفلسفي الألماني في درجة استيعابه وهيمنته على كل المجالات المعرفية والفنية بما في ذلك الموسيقى والنحت ولا ينحصر الأمر عند هذا المستوى بل يتجاوزه إلى مستوى تحديده لمسارات ومعالم هذه المجالات من خلال تقديم رؤى وتصورات للتاريخ والوجود والإنسان.
لقد ظلت السوسيولوجيا الفيبرية هي الأخرى رهينة هذا الثقل الفلسفي الضخم. يتجسد ذلك بشكل واضح عبر أثر المثالية النقدية على شروط التفكير الفيبري بصدد العقلنة. فقد منح للظواهر القيمية منطقا وقانون تطور محايث لا تنتج إلا منه، إذ تظهر في كل مرة بوصفها السبب الأخير للسيرورة الإجمالية الشاملة. يقول في هذا الصدد "أن المصالح المادية والمثالية، وليست الأفكار هي التي تحكم مباشرة سلوك الناس، ومع ذلك فإن "تصورات العالم" التي خلقتها الأفكار هي التي تحدد غالبا المساوات التي تندفع عبرها التصرفات متأثرة بدينامية المصالح"*. إننا أمام نفحة من نفحات الفكر الفلسفي المثالي الألماني والذي تجلى في عمق الارتباط بين روح البروتستانتية والفلسفة المثالية.
إنها حركة لا يمكن حصر أصولها وجذورها، إلا في ألمانيا حيث وجدت أعمق تعبير لها عند كانط وفيخته وهيجل، هؤلاء الأشخاص ذوو التكوين الفلسفي الذين استطاعوا التعبير عن الفكرة الأساسية للإصلاح. لقد عبر إرنست ترولتش Ernest Troeltsh عن هذه الروح الألمانية التي أهلت للعقلنة الغربية بأنها "تجسيد لديانة الوعي والاعتقاد الشخصي منسجمة مع الحضارة الفردانية الحديثة"**.
على هذا الأساس يقتضي منا فهم الإنتاج الفيبري عامة، ومسألة العقلنة بالخصوص، وقفة تحليلية دقيقة لطبيعة الشروط الإبستيمية، التي عملت على إنضاج وبلورة تصوراته حول مفهوم العقلنة، بصيغة أخرى، سنحاول الوقوف على الأفق الإبستيمي الذي لم يكن بمقدور فيبر Weber سوى التفكير به ومن داخله في هذا المفهوم.
لن نعمد إذن إلى البحث عن تاريخ المفهوم بقدر ما سنحاول البحث عن الروابط الخفية التي أهلته للتفكير في موضوع العقلنة. من هذا المنطلق ارتأينا الفرضية التالية:
I- لم يكن بالإمكان التفكير في مفهوم العقلنة إلا بعد هضم روح الفلسفة الكانطية والكانطية الجديدة بتداعياتها، انطلاقا من العناصر التالية:
1- وحدة الوعي.
2- الذات كقوة عقلية.
3- الذات كقوة أخلاقية.
I- الكانطية والكانطية الجديدة أو [الخلفية الفلسفية لتناول مفهوم العقلنة].
شكل إرث الكانطية والكانطية الجديدة أرضية فلسفية، أطرت تصورات وأفكار فيبر سواء بالنسبة للمناهج المرتبطة بالتاريخ والاقتصاد والاجتماع، بل إنها مثلت الخلفية الأساسية لموضوعه الجوهري المتعلق بالعقلنة، إذ لا يمكن فهم العمل الفيبري إلا من خلال المظاهر الواسعة للتفكير الكانطي وما استتبعه من تصورات الكانطية الجديدة والتي يمكن التعبير عنها في ثلاث نقط رئيسية:
1- وحدة الوعي:
يرى كانط أن النشاط الفكري موجه عبر مجموعة من الأفكار المركبة والمتناسقة أو ما يفر بنسقية التفكير، حيث "تقوم الذات العاقلة بجمع المعطيات الحسية عبر الإدراك الحسي لتحويلها إلى معقولات بواسطة إقحام مقولات كالوحدة والسببية والإمكانية والتي تجعلها قابلة للتفكير"(1).
نجد في نفس السياق هرمان كوهن (1918-1942) Herman Cohen(2) الذي يرى أن ليس هناك موضوع غريب عن الفكر، وليس هناك معطى خارجي فكل حقيقة أو واقعة هي من إنتاج الفكر. لقد استثمر كوهن Herman Cohen أطروحة كانط وتجاوزها بادعائه العقلاني "إن الفكر الخالص هو الوحيد الذي ينتج بذاته المعارف الخالصة، إذ ليس هناك معطى حدسي خارج التفكير أو سابق عليه فكل مضمون كلي هو من إنتاج الفطر"(3).
2- الذات كقوة عقلية:
يبرز إيمان كانط بالقوة العقلية للذات، من خلال نقطتين أساسيتين:
أ- الأفكار ودورها الفعال كسبب في التحول الاجتماعي والسياسي.
ب- الوجود الإنساني وقدرته على تشكيل دلالات رمزية وتأويلية لعالمه(4).
هاتان النقطتان هما اللتان جعلتا رائد مدرسة ماربوغ Marbourg [الكانطية الجديدة المنطقية]، هرمان كوهن يعتبر الفكر وحده كفيلا بإنتاج موضوعاته سواء كانت عملية [داخل علم الفن] أو أخلاقية (داخل عالم الفصل) أو حسية (داخل عالم الفن). إذ يتخذ الوعي صبغة عفوية تلقائية: إنه قمة التعبير عن الاستقلالية الكبرى للعقل(5).
- عالمية التجربة الإنسانية: ليس هناك حدود للفكر أو لوقائع خارجة. يقول Martin Albrow "بهذه العناصر، أصبحت إمكانية الحديث عن مفهوم مركزي وأساسي وهو مفهوم [رؤية العالم] والذي سيكون له وقع كبير في التفكير الفيبري، فحينما تعامل فيبر مع فكرة العقلنة فإننا نجده قد تعامل مع ثقافة متحولة عما استحدثه كانط من رؤية جديدة للفكر الألماني"(5).
لقد أصبح العقل بمثابة قوة نافذة داخل التفكير الفيبري، إذ تتجسد قدرته في تجميع كل المعارف التاريخية المشتتة في إطار ما أسماه "بالنمط المثالي" لتجميع وانتقاء المعلومات والمعطيات حتى تيسر عقلنتها. إذ يبحث العقل عن الوحدة داخل التعدد كتعدد كتعميم مجموعة من القوانين داخل مبدأ عام. صحيح أن العالم الخارجي يعرف الفوضى والشتات، إلا أن مهمة العقل هي محاولة تشكيل وتنميط هذا العالم عبر الفهم. هناك إذا "علاقة منطقية اتجاه عالم الموضعات، وهي التي تسمح ببناء موضوعات العالم، إنها بؤرة أساسية لعقلنة وفهم في ارتباطه بهذا البناء، كأن نضع شيئا معينا نستطيع من خلال فهم باقي الأشياء نجد نفس الأمر عند فيبر Weber حيث يطرح مفهوم العقلنة كمفهوم مركزي داخل علم الاجتماع لضبط وفهم آليات التطور الذي حصل في المجتمع الإنساني"(7).
إننا أمام وحدة يقوم بها العقل الإنساني، وبعبارة أخرى الذات حينما تقوم بتوحيد وعقلنة الموضوع أو ما درجت الكانطية على تسميته.
بالعقل والذات الأخلاقية:
يرى كانط أن العقل جوهر وسند الذات الأخلاقية من تم فإنه يشترط في صحة الفعل الأخلاقي:
أ- تحديد الفاعل الحر.
ب- تبني هذا الفعل من طرف الآخرين.
ج- تحول هذا إلى قانون كوني(8).
شكلت هذه لعناصر العقلانية للفعل الأخلاقي منطقيا لتصورين متناقضين للفعل الأخلاقي. الاتجاه الذي يرى صحة الفعل الأخلاقي بنتائجه، وهو ما يدعى بالأخلاقية الغائية Teleologique وتداعياتها النفعية في المقابل نجد نظرية أخلاق الواجب Deontologie المتبناة من طرف كانط، والتي ترى معيار صواب الفعل رهينا بمدى مطابقته لقاعدة أو أمر ما. وهو يفترض تمتع الذات الفاعلة الأخلاقية بحيز كبير من الحرية إنها غاية وليست وسيلة تبرز هذه الإدارة الحرة للذات من خلال المفاهيم التالية:
أ- "الذات وقدرتها على تطبيق القواعد والامتثال لها.
ب- صحة القواعد رهين بكونيتها.
ج- حضور عنصر الوعي والإرادة في اتابع مقابل الاندفاع والاختيار اللاعقلاني"(9).
لقد جعلت هذه التصورات والأفكار كلا من فيند لبند (1945-1848) Wilheln Windelband وريكرت (1963-1863) Heinrich Rickert يقومان بتعويض واستبدال الوعي المعياري بالأنا المفكرة فقد حول فيند لبند Windelband(10) المثالية الكانطية إلى مثالية أخلاقية ليصبح بموجبها موضوعية وحقيقة تمثل ما رهين بمعياريته أي درجة تطابقه وملاءمته لمعايير التفكير.
تصبح المعرفة من هذا المنظور حكما Jugement ذا صبغة عملية وحتى تكون ثمة قيمة معرفية لهذا الحكم، يجب أن لا تنتصب الذات حكما، بل عليها أن تترك ذاتها مسيرة وموجهة عبر الإحساس بالواجب يقول ريكرت Rickert في هذا الصدد "ما يقود حكمي ومن تم معرفتي هو الإحساس بأنه يجب أن أحكم بهذا الشكل وليس ذاك"(11). فالوعي الأخلاقي يجعل الذات مقدمة داخل عالم خاص مختلف عن عالم الوجود، إنه عالم القيم وقد عبر عن ذلك بمقوماته المشهورة "أن تعرف يعني في العمق أن تقوم بتقييم" هذه القيم ليست منطقية فقط، ولكنها أخلاقية واستطيقية.
لا يمكن إذا فصل المشروع الابستمولوجي الفيبري عن طبيعة الصراعات القائمة آنذاك بين مجموعة من الاتجاهات بما في ذلك أطراف الكانطية الجديدة مدرسة ماربورغ المنطقية ومدرسة باد الأكسيولوجية والتيارات الوضعية أو بين النزعة الكلية Holiste والنزعة السيكولوجية إذ يمكن القول أن"هذا الصراع الغير محسوم قد شكل جوهر الفلسفة الفيبرية"(12) ومع ذلك تبرز آثار وأبعاد المثالية النقدية داخل الفلسفة الفيبرية خصوصا في مستوى تناول العقلنة. يبدو جليا حينما نستنطق عناصر التأثير، بالنسبة للعضو الأول المتمثل في:
1) وحدة الوعي:
نجد أن هذا العنصر قد فتح آفاق للتصور الفيبري لمفهوم النمط المثالي. فإذا كانت الذات العاقلة تجمع بين عناصر الإدراك الحسي والإدراك العقلي، في إطار وحدة الوعي عند كانط فإن فيبر يرى أن النمط المثالي: "تصعيد وجمع بين وجهة نظر أو مجموعة وجهات نظر وتسلسل وترابط مجموعة من الشواهر المعطاة بشكل منعزل منتشرة ومتسترة بهذا فإننا نرسم لوحة منسجمة"(13).
يسير فيبر على خطى كانط من حيث تركيب العناصر وتنسيقها، ومع انتقائها إذ يستند إلى مفهوم (الدلالة الثاقفية)، وهي الأفكار أو القيم التي ترتبط بها هذه العناصر، والتي لا تعطيها أهمية في ذاتها وإنما في علاقاتها بموضوعاتها.
تبرز نبرات المثالية في التصور الفيبري في كون "النمط المثالي مجرد لوحة أوجدول من الأفكار. إنه ليس الواقع التاريخي وليس أيضا الواقع "الأصيل" بل يصلح كخطاطة من خلالها يتم تنظيم وترتيب الواقع إنه المثل أو النموذج الذي لا دلالة له سوى أنه تصور محدود مثالي خالص، من خلاله نقيس الواقع لتوضيح المضمون الاختياري لبعض العناصر المهمة التي تقارنه بها"(14) إننا أمام خطاطات وقوالب ذهنية يتم الاعتماد عليها في تركيب وتأليف عناصر أحداث ما. فما هو أساس داخل هذه الأداة هو عملية الانتقاء وترتيب الجوانب المهمة داخل عالم الوقائع أكثر من كونها صورة أو نسخة لأي جزء من أجزاء أو عناصر هذا الواقع ويزداد الأمر أكثر وضوحا وتظهر الصورة الكانطية لمفهوم وحدة الوعي حينما نتأمل قولة فيبر معبرا عن قيمة التصورات كوسيلة لتنظيم المعطيات الاختيارية "إنها ليست غاية في ذاتها، إنها وسائل ذهنية تساعد العقل لكي يصبح سيدا على المعطيات الطبيعية"(15).
2- إيمان كانط بقوة العقل:
متجليا في أهمية الأفكار ودورها في التأثير وكسبب في التحولات الاجتماعية والسياسية من جهة وفي علاقته بالوجود الإنساني وقدرته على تشكيل دلالات رمزية وتأويله لعالمه يتبين مدى تأثير العنصر الأول في العمل الفيبري من خلال الأولوية التي يعطيها فيبر للبناءات الفكرية ودورها في فهم وتفسير الأحداث، ومبررا المجتمع يستلزم تحديد طبيعة أفكاره وتصورات أفراده، يقول في هذا الصدد: "يمكن دور النمط المثالي في التمكن من الأفكار التي تحكم سلوكات الناس في عصر معين. إنها حركت أناسا غير محددين رغم اختلافهم وهي واضحة من حيث المعنى، وكذلك من حيث الشكل والعمق"(16) يبدو أن فيبر على عكس أطروحة ماركس بدل الخضوع لوجود الناس لتحديد وعيهم وأفكارهم وتصوراتهم نجده يذهب إلى مضمون الوعي والأفكار لاستنطاقها كعنصر محدد، لكل ما هو واقعي واختياري هذه الخلقية المعرفية جعلت فيبر يقيم علاقة شبه سببية بين العقلنة وبين التصورات والقيم والأخلاق.
يبدو تأثير هذين العنصرين من خلال التعريف الذي يقدمه فيبر لمفهوم الثقافة "إنها من وجهة رؤية الإنسان بمثابة خط مستقيم متناهي، يقوم الفكر باستثماره من حيث أهميته ودلالاته بالنسبة لمال العالم اللامتناهي الغريب عن كل دلالة"(17) نلاحظ اعتراف فيبر بالقيمة الاعتقادية للدلالات ذات المضامن الثقافية، ودورها في توجيه البحث والتعرف على الواقع المتفردة إذ بدون الاعتقادات لن يكون للبحث أو للمعرفة أي معنى العلاقة بالقيمة ذلك أن موضوعية العقل عند فيبر رهينة بمفهوم العلاقة بالقيمة، وهي تقتضي توجيها نحو الأحداث الثقافية. فالثقافة مفهوم قيمي بل يصبح الواقع التجربي في هذا الإطار ثقافة بقدر ما نقربه وننسبه إلى أفكار قيمة فتصورنا للثقافة هو تصور للقيمة إذ أن الواقع الاختياري هي ثقافة في أعيننا، من حيث أننا نربطها بأفكار القيمة. إنها تلتحم بعناصر الواقع، خصوصا حينما تكتسب هذه العناصر دلالات بالنسبة لنا عبر العلاقة بالقيمة فنحن أمام جزء من واقع اقتطعناه يأخذ كل مرة لونا معينا حسب القيمة التي نضيفها عليه وهو ما عبر عنه دلتاي Dilthey بمفهوم "من الحياة إلى الحياة".
لعل هذا ما جعل رينسمان Runiceman يخلص إلى حقيقة عناصر النزعة المثالية في التصور الفيبري من خلال مفهوم [العلاقة بالقيم] حيث يقول: "يتفرع مفهوم العلاقة بالقيم من معرفة ضمنية خفية مثالية أكثر مما هي وضعية"(18) وهو في نظره خطا فيبري. فمن عيوب هذا التصور القيمي للفعل الإنساني جعل عالم الاجتماع محاصرا بمعيار واحد أثناء دراسته لمعنى سلوك ما كما عبر عن ذلك فتجنشتين Wittgenstien حينما نستوفي البرهان على علاقة بين سبب ونتيجة، فإن السبب يتحول إلى تصور، وهذا هو جوهر المشكل لأنه يسقطنا في أحادية جديدة. صحيح أن مفهوم العلاقة بالقيم يمكن الباحث من فهم الظاهرة، إلا أن هذا لا يمنع المرور إلى مستوى التفسير والبحث عن القوانين الضابطة المفسرة كما هو الشأن بالنسبة لعلوم الطبية فعالم الاجتماع مطالب بتقديم تفسيرات لائقة على مستوى المعنى وتفسيرات ملائمة من الجهة العلمية. وحتى يضمن فيبر شروط الانتقال من مستوى فهم المعنى إلى مستوى التفسير السببي، فإنه يقوم بافتراض النمط العقلي للفعل: حيث يستخدم الفاعل الوسائل المناسبة على الوجه الذي يتيسر فيه معرفتها من الناحية العلمية. كأن نقول مثلا بتفسير الفعل عبر إرجاعه إلى غاية يفكر فيها الفاعل بتوظيفه لوسائل مطابقة لتلك الغاية. إلا أن العلية هنا في نظر فيبر، ليست مسألة ضبط القوانين بقدر ما هي مسألة علاقات عينية فردية. فلا يتم إرجاع حادثة إلى قانون عام يضبطها ويفسرها، وإنما إسنادها إلى عناصر معينة ساهمت في تشكلها واستخراجها إلى أرضية الواقع. فالرأسمالية مثلا هي حصيلة تشكل مجموعة من العناصر مثلث العقلنة الرأسمالية التي انعكست بدورها على ظهور النمط الاقتصادي.
ليست العلية في نظر فيبر غاية، بل هي وسيلة تيسر عملية الإسناد السببي لظاهرة من حيث أهميتها من الوجهة الثقافية أو الدلالية. وهنا تبرز أيضا ملامح النزعة المثالية الفيبرية، فعوض الرجوع إلى طبيعة المكانة، والوضعية تي يحتلها الموضوع، فإنه يتم الرجوع إلى بناء تمايزات وترابطات نوعية هدفها على حد تعبير فيبر الانتقال من مستوى المعنى الظاهري إلى مجال الموضوع ذاته، بحيث تعطى الأسبقية للمقولات التي ينطلق منها الباحث على موضوع البحث الأمر الذي جعل رينسان Runuciman يخلص مرة أخرى إلى حضور النفحة المثالية "فخلف كل تفسير لسلوك اجتماعي هناك ارتباطات سببية بين إجرائية المتغيرات المحددة التي من خلالها يتأسس ما هو خفي وكامن"(19).
هناك من أراد تخليص فيبر من هذه الصورة المثالية، فقد ادعى تيرنر Brayan Turner تأكيد فيبر على أن أي تصور، يدعي أن الرأسمالية هي خلاصة مرحلة الإصلاح أي الأخلاق البروتستانية يعتبر تصور أقرب إلى الغباء والمذهبية"(20) بل إن مفهوم السببية هو أكثر تعقيدا مما يتصوره ذوو الزعم المثالي. ومع ذلك يرجع تيرنر Turner إلى نفس المقاييس، التي استعملها رينسمان Runucinman لإثبات عناصر الفلسفة المثالية خلف تصوراته المنهجية، حيث يقول: "لقد كان فيبر مهتما بتوضيح واكتشاف العلاقات وأوجه الالتقاء المعقدة بين المهن والمعقدات والتصرفات ذات المعنى. فمهمة عالم الاجتماع هي فهم دوافع الفاعلين الاجتماعيين ليخلص إلى أن فيبر لا يأخذ بوجهة النظر الوضعية أو الهيومية (نسبة إلى ديفيد هيوم) في تصور السببية ولكنه يحاول تفسير التصرفات أو الأفعال عن طريق فهم المعاني الذاتية"(21).
يبدو أن جوهر الأطروحة الفيبرية هو تبرير أي سلوك عبر الحوافز الفردية التي تعتبر أساس تشكل التصورات، فوراء كل فعل هناك حافز "إذ لا يمكن البرهنة عن الفعل من خلال الفهم المتوالي للحوافز باعتبارها الخزان الحقيقي لتفسير السلوك الملاحظ"(22)، فليس هناك أي اتساق في إرجاع الفعل إلى الحافز لتفسيره. قد يكون هناك علاقة منطقية بين الحوافز والأفعال على حد تعبير رينسمان ولكن لا يعني أن تتحول إلى علاقة سببية. وهو ما جعل فيبر لا يفسر الأشياء انطلاقا من ذاتها بل يقوم بتوحيد الغاية والحافز، كضرورة قبلية للتفسير والشرح. إننا أمام صورة من صور المثالية النقدية الكانطية، التي تحضر بكثافة داخل النص الفيبري. يتجسد هذا الحضور في الموازنة والمطابقة التي يقيمها فيبر بين العقلنة القيمة، وبين العقلنة الغائية فالفعل العقلاني القيمي هو فعل يقوم بعقلنة ولا يطابقها وما نظرية الفهم سوى الأفعال والمواقف ومعتقدات الذوات الفردية مفهومة متضمنة لمعنى [يعطيه الفاعل لسلوكه] وهو الكفيل بأن يكون سببا حقيقيا للفعل، سواء كان معتقدات أو مواقف أو قيم فأداة الفهم بمثابة إثبات لوجود عقلانية خلف العقلنة الدينية، والتصورات القيمية التي يحملها البروتستاني اتجاه العالم في سلوكه وأفعاله. يقول فيبر: "تجد المعتقدات ووضعية الذوات الاجتماعية تفسيرها في أسباب قوية معقولة، إذ نعثر وراء هذه الاعتقادات على مبررات عقلية، وهذا لا يصدق على الاعتقادات العلمية فقط بل على الاعتقادات الأخلاقية والدينية"(23) المثال الفيبري الذي يقدمه بدون Boudon : نموذج اعتقادات الفلاحين السحرية وعدم مقدرتهم على التنبؤ بمآل الظواهر الطبيعية. فهم يرفضون التصديق بخضوع الظواهر لقانون ونظام ثابت لأنه يعني بالنسبة لهم التقليل من إمكانية التكهن المتعدد الأوجه والذي تتيحه الاعتقادات الطقوسية السحرية. فهو سلوك مبرر عقلانيا بل إن عقلانيته تمكن في سياق الغايات التي يطمح إليها هؤلاء الفلاحين. ينقلنا هذا إلى العنصر الأخير من عناصر وإرث المثالية الألمانية المؤثرة في التفكير الفيبري.