الاستظهار أو الحفظ ليس عملية آلية وهو أجدى وأنفع لتعلم اللغة العربية وغيرها
استوقفني عنوان مقال السيد احميدة العوني : " تعود الحفظ الآلي مضر باللغة العربية " الذي نشر يوم 24/01/2010 على موقع وجدة سيتي فقرأت المقال الذي عبر فيه صاحبه عن معارضته للاستظهار والحفظ معتبرا ذلك مضرا بالتعلم خصوصا تعلم اللغة العربية . ووددت أن أطرح وجهة نظر مخالفة لوجهة نظر السيد العوني لأنني كنت فيما مضى أعتقد ما يعتقد حتى ثبت لدي أن اعتقادي كان مجانبا للصواب ومتجنيا على ملكة الاستظهار والحفظ . وقضية هذه الملكة تبدأ من كون الأمة الإسلامية التي كانت في البداية أمة أمية ، وبعث فيها بسبب ذلك نبي أمي صلى الله عليه وسلم كانت تعتمد على هذه الملكة التي لم تكن سبة ولا عيبا بل كانت سببا في كون آخر معجزة تؤيد بها آخر رسالة سماوية هي القرآن الكريم جريا على سنة الله عز وجل في دعم أنبيائه بمعجزات تناسب عصورهم وما يميزها. فالذي ميز عصر آخر رسالة هو الفصاحة والبلاغة والسليقة وكل ذلك من نتاج ملكة الحفظ والاستظهار حيث كان العربي يفخر بحفظ كلام كثير، وكانت ذاكرته لاقطة .ولما كان قضاء الله وقدره أن تكون رسالة الإسلام هي آخر الرسالات التي تضع حدا للأمية في هذا العالم من خلال انطلاقها من وسط أمي إذا ما انتفت عنه أميته لم يعذر بعده غيره ليصير العلم هو أهم ما يميز العالم قبل نهايته لئلا تكون للناس حجة على الله تعالى بعد آخر رسالة عالمية اختار الله تعالى لها اللغة العربية التي لم تكن لغة الكتابة والقراءة ، وإنما كانت لغة الذاكرة والحفظ والاستظهار. وبهذه اللغة حفظ كلام الله عز وجل ، ولا زال ينتقل من جيل إلى آخر عبر الذاكرة اللاقطة ، وسيظل كذلك إلى نهاية هذا العالم . ومعجزة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم هي الحفظ حيث استظهر وهو لا يقرأ ولا يكتب كتاب الله عز وجل ، ولم يكن ذلك منقصة بل معجزة . صحيح أن الأمة الأمية كتبت وقرأت بعد نزول الوحي لا يجادل في ذلك أحد ، ولكنها لم تتخل أبدا عن الحفظ والاستظهار ، ولم يزدها الحفظ والاستظهار إلا علما وفهما بل كان الحفظ والاستظهار هو وسيلتها للفهم والعلم . وما الحفظ والاستظهار إلا وسيلة من وسائل تحصيل المعلومات تماما كما يحصلها من يستعمل وسائل أخرى كالكتابة والتسجيل على كل ما يصلح للكتابة والتسجيل حسب اختلاف العصور والبيئات. فالناس يختلفون في طريقة تحصيل العلم والمعرفة فبعضهم يعتمد على الصحف الورقية أو الأشرطة الممغنطة ،أو على الأقراص الصلبة للحواسيب ، والبعض الآخر يعتمد على قرصه الطبيعي الذي أودعه الله عز وجل في دماغه . فلماذا سيعاب على الحافظ لمعلوماته في دماغه فقط دون سواه ممن يحافظون على معلوماتهم باستعمال مختلف الوسائل ؟ وهل من الإنصاف والعدل أن يمتدح الذي يحفظ معلوماته في قرص صلب لحاسوب ، أو على شريط ، في حين يعاب على من يحفظها في دماغه ؟ وأعتقد أن وسيلة الحفظ الطبيعية في الدماغ أكثر أمنا وسلامة للمعلومات من باقي الوسائل المعرضة للضياع. فالأقراص الآلية الصلبة التي تستعمل لحفظ المعلومات تتهددها الأخطار أقلها هجوم كاسح لفيروسات مدمرة ، في حين أن مصمم الأقراص الطبيعية في الأدمغة البشرية جلت قدرته أودع فيها مضادات قوية للفيروسات إلا أن يكون الفيروس شيخوخة وهرما قال فيهما الله عز وجل : (( ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا )). ولقد ثبت علميا أن الذاكرة البشرية الطبيعية تختلف كل الاختلاف عن الذاكرة الاصطناعية الآلية لهذا لا يستقيم أن ننعت عملية الحفظ والاستظهار بأنها آلية كما جاء في عنوان مقال السيد العوني . ولا يصح أن نفصل بين ملكة الحفظ والاستظهار و ملكة الفهم ، فالحفظ والاستظهار مؤشر من مؤشرات الفهم ، وقد شفى وكفى الفيلسوف ابن سينا في بيان العلاقة بين الملكتين في حديثه عن النفس في مؤلفاته الفلسفية . والملكتان معا الحفظ والفهم عبارة عن وجهين لورقة واحدة ، لا يمكن التعامل مع إ حداهما دون الأخرى تماما كما لا يمكن تمزيق وجه ورقة دون وجهها الآخر . ولقد كان التعبير القرآني دقيقا في وصف الملكتين في نبي الله يوسف عليه السلام في قوله تعالى : (( قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم )) والحفظ لغة هو المنع من الضياع والتلف والصيانة من الابتذال والرعاية والمراقبة والدفاع والذب إلى غير ذلك من المعاني . والحفظة من الملائكة الذي يسجلون أعمال الناس ، ويحفظونها بطرقهم ووسائلهم التي علمها عند الله عز وجل . وما كان الحفظة من الملائكة ليحفظوا ما لا يفهمونه من أعمال الخلق مما يعني أن الحفظ هو توأم الفهم كما أكد ذلك القرآن الكريم ، وهو أصح علم . ولأمر ما قال السلف : " من يحفظ حجة على من لا يحفظ " . فالقول بأن الحفظ يؤثر سلبا على الفهم قول لا يصح بل أكثر الناس حفظا أقدرهم على الفهم . وقد تأكدت من هذا من خلال تجربة معيشة حيث قدر لي أن أكون مدرسا في التعليم الأصيل ، وكان يلتحق به طلبة التعليم العتيق من حفظة كتاب الله عز وجل ، وكانوا آية في الذكاء والفهم لأن ذاكراتهم كانت تتسع من خلال ممارسة الحفظ فتسع بكل سهولة كل المعارف ، والمعلومات ، وقد نبغوا في كل المواد الدراسية ، وكانوا يحصلون على أعلى الدرجات ، في حين كان يتخلف عنهم من لا يجاريهم في الحفظ . وكيف يضيق فهم من يحفظ كتاب الله عز وجل ، ويحفظ كتب الصحاح ؟ ولعل السيد العوني يخلط بين التقليد والحفظ في سن الطفولة المبكرة حيث يجيد الصغار التقليد دون استيعاب ما يقلدونه ، وهذا ليس بالحفظ الذي هو عملية عقلية جد معقدة لا تتأتى للإنسان قبل مرحلة معينة من عمره
وإنني بحكم اختصاصي كمفتش لمادة اللغة العربية أتجول بين الفصول الدراسية وأعاين آفة تعطيل ملكة الحفظ لدى المتعلمين حتى أن المتعلم في السنة النهاية من التعليم التأهيلي أحيانا قد يضطر لاصطحاب دفتره إلى السبورة لنقل عبارة مرسومة عليه لأنه لا يشغل ذاكرته الحافظة و يرجع إلى هذا الدفتر مرات عديدة لكتابة أو نقل جملة واحدة منه إلى السبورة . ولا يستطيع المتعلمون الاستشهاد بشواهد وأمثلة في أحاديثهم .ولهذا السبب تنتشر ظاهرة القصاصات التي يعتمد عليها المتعلمون في المواد الأدبية وحتى العلمية ، وقد صادرت منها في امتحان مادة الفلسفة في يوم امتحان خلال موسم من المواسم الدراسية المنصرمة ما يزيد عن خمسمائة قصاصة علما بأن مادة الفلسفة تتعلق بالمفهوم حسب نظرة السيد العوني ، ومع ذلك أعوزت المتعلمين الذاكرة لاسترجاع هذا المفهوم . فاللغة العربية لا يضرها الحفظ بل بالعكس يضرها عدم الحفظ كما يشهد على ذلك الواقع المعيش خصوصا في ميدان التربية والتعليم ، ومن خصوصيات العرب القدرة الفائقة على الحفظ دون أن يكون ذلك منقصة كما يروج لذلك البعض من أجل النيل من كتاب الله عز وجل لأنه بتعطيل ملكة الحفظ يضيع القرآن الكريم كما كان حال الأمم الكتابية قبلنا إذ لم تنقذ الكتابة الكتب السماوية من التحريف نظرا لتعرض وسائل الكتابة للتلف مع مرور الزمن في حين تظل الذاكرة حية تتداولها الأجيال على مر العصور .
محمد شركي
وجدة سيتي
وجدة سيتي